[3] سماهر الضامن: شارع “العطايف” صار صديقاً للنساء النساء.. الثقافة.. الجائحة وشوارع المدينة الخلفية

الدكتورة سماهر الضامن

بعد عودتي واعتيادي قيادة السيارة في الرياض؛ اكتشفت أن الأقاويل الرائجة عن القيادة المتهورة لأهل الرياض ليست صحيحة تماماً مقارنة بأهل القطيف، مثلا، الذين لا يقلون عنهم تهورا.. ليست هذه سوى مقولات تحاول ترهيبنا من المدن الكبيرة.

وقبل أن أبدأ خطط التنزه والتجوال التي كنت أنوي القيام بها في أحياء الرياض القديمة على غرار جولاتي الأمريكية، داهمتنا الجائحة.. لم أجد ما يخفف اضطراب الصدمة مع تجربة الحجر الصحي بعد أكثر من أربعة أسابيع سوى تنفيذ الخطة القديمة المؤجلة بزيارة منطقة الحلة..

سمعت أن بها سوقاً شعبياً موسيقياً عريقاً، فأصبحت زيارتها أحد أهدافي المؤكدة.. في اليوم الثاني لرفع الحجر الجزئي قررت البدء بتنفيذ المشروع التي تأجل كثيراً.. فكرت في أنه لا يوجد توقيت أنسب من هذا..

توقعت أن تكون المنطقة هادئة وخالية من الزحام.. بل استبعدت تماماً أن تكون محلات بيع الأدوات الموسيقية مفتوحة في نهار رمضان.. لم يكن لدي شك أيضا أن الناس مازالوا يخشون مغادرة بيوتهم.. لن نواجه مشكلة الازدحام.. الدقائق الأولى في الخارج أكدت توقعاتي.

لم أكن قد خرجت طوال الأسابيع الأربعة.. يوترني البقاء في الشقة الصغيرة ولا نافذة فيها تطل على بحر أو شجر..  كنت أرى الصور والمقاطع المنتشرة لمدننا الخالية.. أقرأ الأخبار عن انخفاض نسب التلوث في مدن اختنقت سماواتها لسنوات بعوادم السيارات ودخان المصانع ومصادر التلوث الأخرى.. رأيت صورا لشوارع الدمام والرياض وجدة شككت في أنها معدلة ببرامج الكمبيوتر لإزالة السيارات..

لكن التجربة في اليوم الثاني للرفع الجزئي للحجر كانت أشبه بدخول عالم دايستوبي لا يمكن تخيله خارج أفلام الأبوكاليبس/ نهاية العالم. ما تخيلت ولا حتى بعد تشغيل مشروع الميترو أن تكون شوارع الرياض الرئيسة خالية من الاختناقات المرورية في ساعة ذروة..

بدت الشوارع أوسع وأنظف، والبنايات الزجاجية أعلى وأبرد.. كانت السيارة تحلق في الشوارع الفارغة.. انتبهت لتفاصيل كثيرة لم أكن قادرة على رؤيتها في الأيام العادية التي كنت أخوض فيها معركة يومية بدوامين في هذه الشوارع. طريق الملك عبدالله الذي يتحول إلى اللون الأحمر في خرائط قوقل من بعد الساعة الواحدة ظهرا إلى قرب منتصف الليل.. شارع تركي الأول قلب المدينة الجديد الصاخب الأنيق.. استطعت للمرة الأولى أن أقرأ أسماء محلاته ومقاهيه، تأملت تصاميمها الخارجية الفخمة التي بدلت حلة الرياض.. الرياض التي وصلتها وهي تستعد لموسمها الترفيهي الصاخب والمشع، خفتت زهوتها الآن.

اقتربنا من الحلة.. اجتاحتنا فجأة روائح قوية تشبه روائح الإهمال، وموجة بشرية خرجت من شبه العدم.. بدا كما لو أننا انتقلنا من منطقة زمنية لأخرى.. شارع واحد فصل بين عالم الدايستوبيا الزجاجي الجامد وعالم البروليتاريا الطيني الحي.. كانت المفاجأة أن كل المحلات تعمل.. أصحاب المحلات والعاملون والزبائن، الجميع في حركة دبورية صيرتها الجائحة مقلقة.

 

التقارب البشري أمر ظننت أني لن أشهده مرة أخرى قبل شهور إن لم تكن أعواما لكثرة ما قرأت من تقارير منظمات ووزارات الصحة ومقاطع الأطباء.. دهشتي كانت في وضع التشغيل على جميع المستويات. بدا أن أربعة أسابيع كانت فترة كافية لجعل أي تفاعل بشري “طبيعي” مع الخارج أمراً باعثاً على الدهشة..

 

كان ابني الشاب يرافقني. خارجاً من صدمة العزل المنزلي، بدا قلقاً من فكرة السير بين البشر.. كنت عكسه تماماً.. لا اعتيادية المشهد كانت تحفزني للغوص في المكان واستكشافه.. ابتهج بعض أصحاب المحلات لحماسي، صاروا يحدثونني عن تاريخ السوق وكيف أنها على مدى أربعين عاماً أو يزيد، وحتى خلال صعود موجة التشدد، لم تغلق أو تتوقف ولا ليوم واحد: زارنا طلال مداح مرة! هذا عود رابح صقر! أحدهم ينزل الربابة ويعزف؛ لدينا دروس في العزف أيضاً.. كنت جذلة لأني اخترت أن أكون في ذلك المكان،، في ذلك اليوم.. تيقنت أن لا شيء سيعيدني للحياة سوى عالمي الثقافي، الموسيقى والآلات والتاريخ..

الرحلة إلى ساحة الحياة هذه انتهت بمفاجأة مبهجة جعلتني أعلن أني صرت أكثر اندهاشاً من أليس في بلاد العجائب..

أثناء تجوالي في الشوارع المجاورة وقعت على شارع العطايف،، شارع العطايف!! شارع العطايف يا ناس!! الرواية التي علقت بقلبي لسنوات.. التي ظننت أن أبطالها أشخاص ينتمون للواقع أكثر من الكتب.. أردت الدخول في الأزقة للبحث عن شنغافة وسعد وناصر.. وجدت البيت الذي يظهر على غلاف الرواية… اشتريت خبزاً من محل تميس.. طفت محلات الخرز والكريستال. سألت الناس إن كانوا يعرفون الرواية أو أيا من تفاصيلها.. 

لكن أكثر ما أسرني هناك في تلك اللحظة هو الأمل الذي أطل.. أخيراً صار الشارع صديقا للنساء.. أخيرا صار يمكنني استخدام دليلي الأدبي للتنزه في شوارع الرياض.. الطريق طويل، لكنه ما عاد مستحيلا.. لقد كنت قبل أيام أصور بهاتفي الجوال البيت الذي ظهر على رواية شارع العطايف.

  • هذه التأملات حول المدينة، الثقافة، والعزلة وعلاقة النساء بها هي تداعيات من حضوري لحلقة الدكتور سعد البازعي لمناقشة المقال البديع الذي ترجمه لرالف يوبانكس “الحياة الأدبية في سنة وباء”، فله جزيل الشكر لهذا التحفيز على الكتابة.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×