علي الأكبر.. آية الفتح
عبدالإله التاروتي
في سياقات تحليل معطيات شخصية علي الأكبر عليه السلام بوصفه واحد من أبرز قناديل الطف التي تركت بصمتها على صيرورة الأحداث منذ يومها الأول حتى ختام فصولها المأساوية، فإننا لا نستطيع فهم أبعاد شخصيته بمعزل عن بيئته التي نشأ فيها وأحاطت به فأسبغت عليه من الطاف محضرها الرسالي. ما أتاحت له قراءة وفهم الواقع من خلال المرسل، الرسول، الإمام.
بيئة وصفتها الروايات بأنها ” بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، ومعدن الرحمة “.
وبذلك أيضاً لا يمكن فهم واستيعاب حركته الفاعلة بمعزل عن حرم الجلال والجمال الذي كان يستظله من خطاب القرآن في تجلياته المختلفة.
صور وتداعيات ملكوتية تجذبه ناحية إرهاف السمع لمشوار الرسول في شعب أبي طالب، وبمعيته خديجة حاضنة الحب، ونبع الكوثر والسكينة وهي تشد من أزره في أمر التبليغ. فالعطش، والحصار، وجرعات الألم، والمظلومية هي أرث هذا البيت الذي ومنذ يومه الأول وهو يقدم القربان تلو الآخر على مذبح صناعة الإنسان.
فعلي الأكبر، اسم يعكس محضر كل الكمالات التي تعين السالك وهو يسير ناحية الأخذ بيد أخيه الإنسان نحو ما ينفع الناس، ورائده في هذا الطريق ” إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ” هكذا ارتسمت معالم شخصيته لتبرز في الخارج كعنوان أصيل لمعاني النبل والسخاء والأيادي البيضاء، فنار القرى شاهد صدق، وبيان حال لسيرة الأكبر بين الناس، يتوج ذلك كله درجة عالية من الطاقة والكفاءة مكنته من وعي الأهداف الكبرى الباعثة على إدراك المسؤولية بما يتطلبه هذا الإدراك من مبادرة ودافعية للإنجاز.
وهو حيث يكون، تحضر القيم والمثل العليا شاخصة في صورتها الكبرى، فهي من متلازمات شخصيته التي انطبع عليها فحيث يكون تكون، تتبعه “اتباع الفصيل أثر أمه”
وبذلك، يمكننا فهم مقولة الإمام الحسين عليه السلام وهو يصفه وهو يناجي ربه في لحظة وجدانية عالية المضامين تختصر أبعاد شخصيته الملكوتية إذ يقول: «اللّهُمّ اشهد، فقد برز إليهم غُلامٌ أشبهُ النّاس خَلقاً وخُلقاً ومَنطِقاً برسولك. و كنّا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه.» وهذا المرتكز هو الذي اتكأ عليه الشاعر بقوله:
جَمَعَ الصِّفاتِ الغُّرَّ وَهِيَ تُراثُه
مِنْ كُلِّ غِطْرِيفٍ وَشَهْمٍ أَصْيَدِ
فِي بَأْسِ حَمْزَةَ فِي شَجاعَةِ حَيْدَر
بِإِبا الحُسَيْنِ وَفِي مَهابَةِ أَحْمَدِ
وَتَراهُ فِي خُلُقٍ وَطِيبِ خَلائِقٍ
وَبَلِيغِ نُطْقٍ كَالنَّبِيِّ مَحَمَّدِ
وهنا يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل: شخص بهذه الصفات والمزايا والملكات كيف استطاع الإمام الحسين عليه السلام ان يتخذ في شأنه هذا القرار الصعب؟
يعلم المدرك، بأن الأهداف الكبرى والغايات العظمى تتطلب القرار الصعب، بالرغم من الخسائر التي قد تترتب على هذا القرار، وهذه من أهم المسلمات التي يفترض أن تكون حاضرة عند حل المشكلات، إذ ليس بالضرورة أن لا خسائر عند حل أي مشكلة من المشكلات، غاية ما في الأمر يختلف مستوى القرار وصعوبته تبعاً لطبيعة المشكلة ومآلات نتائجها. وحركة كربلاء هدف جامع لمعاني النبل والعطاء في أسمى تجليات المعاني المتصورة للبذل والتضحية والعطاء.
ولعل الصورة التي رسمها الإمام الحسين عليه السلام قد تدلنا على الاقتراب من مغزى اتخاذه هذا القرار الصعب تبعاً لما يتضمنه هذا القرار من خسائر تتمثل في استشهاد فلذة كبده، مع أن الفارق بين استشهادهما ساعة من نهار.
ولعل حيثيات اتخاذ هذا القرار جاءت من حيث رمزية تقديم الأكبر كأول شهيد من أهل بيت النبوة. وهو تعبير يكتنز في شخص الأكبر سمات جده الأعظم محمد صلى الله عليه وآله، ” خَلقاً وخُلقاً ومَنطِقاً”، وتضحياته وتضحيات خديجة وأصحاب الكساء عليهم السلام في خط الرسالة الربانية، وحيث حركة الحسين عليه السلام هي امتداد طبيعي لحركة الرسول منطلقاً وأهدافاً وغايات في مدياتها القريبة، والمتوسطة، والبعيدة، وحيث كان هذا الهدف واضحا وجليا لدى الإمام الحسين عليه السلام كان علي الأكبر دليل هذا الفتح، وعنوان نقاء هذه الحركة بما يحمله من مضامين حقيقية لسيرة ومسيرة الرسول الأعظم، إذ كان مرآة الجمال النبوي، ونموذجاً من منطقه البليغ.
والذي يبدو حسب ما نفترض بأن الإمام الحسين عليه السلام، قد وظف كل ما يمكن توظيفه ضمن استراتيجيته الكبرى ضمن خط تدعيم منطلقات دعوته، مدركاً لقلة العدد وفقدان الناصر، وهذا يستلزم منه كقائد أن يحول الضعف إلى قوة، والمستحيل إلى ممكن، وهو ما يستدعي بالضرورة حل ما يعترضه من مشكلات لا مجال لتأجيل اتخاذ القرار فيها، فكان أن استخدم في تحقيق ذلك عدة تكتيكات تسهم في تحقيق مقتضيات خطته الاستراتيجية، ومن هذه التكتيكات التي نفترضها توظيفه للغة الجسد سواء فيما يتصل به عليه السلام، ومنها عملية ارتداء عمامة جده المصطفى، والتقلد بسيفه أو ما يدور في فلكه. أو ما يتصل بعبد الله الرضيع والمجيء به للقوم لسقيه الماء ورميه بالسهم من قبله دون سقيه.
وقد كان الأكبر عليه السلام أول الفاتحين لهذا الخط بما يمتلكه من خصائص تساعد في تحقيق الهدف المرجو والذي يحقق من خلاله الإمام الحسين عليه السلام ما تُعرف بالصدمة، والتي من نتائج توظيفها إلقاء الحجة كاملة لقطع أي تبرير أو تعليل سواء للقوم أو من سيأتي من بعدهم من أجيال، وكذلك إتاحة الفرصة لمن يرغب في مراجعة حساباته من خلال البقية الباقية من ضمير قد يعيده إلى جادة الصواب. ولعل حالة الانشقاقات التي حصلت في صفوف الجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد، رغم قلة عدد أفرادها تعود إلى تأثير هذه الصدمة ومن شواهد نتائجها التحاق الحر بن يزيد الرياحي وبعض ممن معه بما يحمله من رمزية كقائد.
وهكذا تقدم علي الأكبر شاهدا وشهيدا، ليكتب في سِفر الطف، ترنيمة المثل، وتراتيل القيم وهي تعجن من معاناتها رغيف خبز يشبع جائعاً، وقنديل هداية ترفع الوحشة عن سالكي طريق الحق لقلة سالكيه!