الجواهري في رحلة البحث عن الحسين

ياسر آل غريب

إنك لن تسبح في النهر مرتين“.. هكذا يؤمن الفيلسوف هرقليطس دلالة على أن اللحظة التي نعيشها اليوم لن تكون هي نفسها في الغد؛  لتغير الظروف من حولنا.

هذا ما ينطبق على محمد مهدي الجواهري (1899م – 1997م) فقد كتب قصيدتين عن الإمام الحسين، القصيدة الأولى (عاشوراء) 1935م و الثانية (آمنت بالحسين) 1947م، وبينهما مسافة  12 سنة كانت كفيلة بما يكفي لنلمح معالم التغير والنضج الثقافي عند شاعر العرب الأكبر.

فالقصيدة الأولى بعنوانها العام يبدو فيها الشاعر سارداً لا يستطيع الانفكاك عن اللحظة التاريخية، من خروج الحسين إلى المصرع وما بعده من أحداث، مبتدئا بحكمة في مطلعه يتخلص بعدها إلى موضوعه:

هي النفس تأبى أن تُذَلَّ وتُقهَرا

 ترَىَ الموتَ من صبرٍ على الضيم أيسَرا

وتختارُ محموداً من الذِكرِ خالداً

على العيش مذمومَ المغَبَة مُنكَرا

مشى (ابنُ عليٍ) مِشيةَ الليث مُخدِراً

 تحدَّته في الغاب الذئابُ فأصحَرا

وبعد كل هذه الجزئيات التاريخية المليئة بالتفاصيل يشهر الشاعر حسه الفكري في نهاية القصيدة بالوضوح المباشر الذي يقدمه كجرعة حل للذين يحرفون القضية الحسينية:

أقول لأقوامٍ مضوا في مُصابه 

يسومونه التحريفَ حتى تغيَّرا

دعوا رَوعةَ التاريخ تأخذْ مَحَلَّها 

ولا تجهدوا آياتِه أن تُحوَّرا 

وخلوا لسانَ الدهر ينطقْ فإنّه 

بليغٌ إذا ما حاولَ النطقَ عَبَّرا

هذا التحريف الذي أصاب واقعة عاشوراء الذي ذكره الجواهري، تحدث عنه مرتضى مطهري بالتفصيل في كتابه الملحمة الحسينية  ذاكراً أسبابه التي تأتي من جهة الأعداء التي تبدل سير حوادث التاريخ، وتأتي أيضا من جهة المحبين في خلق الأساطير والمبالغات، فالبشر كما يرى “يمتلكون حس عبادة الأبطال وتقديسهم، الأمر الذي يدفعهم إلى خلق الأسطورة من أبطالهم القوميين أو الدينيين”.

ويرى مطهري أن تحريف المحبين اللفظية والمعنوية هي أكثر من الأعداء.

أما قصيدة الجواهري الثانية فهي الأكثر شهرة وانتشاراً، وهي إحدى الشواهد التي أستطيع أن أستدل بها على انتقال الجواهري من الحالة التاريخية التي اكتسبها من بيئته الأولى إلى الحالة الواقعية التي نمت مع نضجه الثقافي وتجربته.

في قصيدته “آمنت بالحسين” يبدو الجواهري في قسمها الأول منسجما مع الموروث الرثائي الذي اكتسبه من مجتمعه ونشأته الأولى حيث كان يدرس العلوم الدينية في النجف الأشرف، بعاطفة متوهجة تبدأ بالطواف حول القبر الشريف وتعفير الخد تعبيراً عن حزنه على سيد الشهداء:

فِدَاءً  لمثواكَ من مَضْــجَعِ

تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ

بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ

رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ

وَرَعْيَاً ليومِكَ يومِ “الطُّفوف”

وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مَصْـرَعِ

وحُزْناً عليكَ بِحَبْسِ النفوس

على نَهْجِكَ النَّيِّـرِ المَهْيَـعِ

لكنه في القسم الثاني من القصيدة يضع بصمته الخاصة (الجواهرية) بمزيد من القلق المعرفي بحثا عن حقيقة الحسين التي ضاعت خلف طلاء القرون والأستار الخادعة – كما عبر – إن هذا البحث يعد بزرخاً عاشه الشاعر بتمثل يوم عاشوراء في خاطره وتمحيص أمره غير مكترث بنقل الرواة، وهذه إحدى التحولات الكبيرة عند الجواهري الذي توصل إلى لحظة الإشراق بعد رحلة نفسية مرهقة هي رحلة الشك إلى اليقين:

فَنَوَّرْتَ ما اظْلَمَّ مِنْ فِكْرَتِي

وقَوَّمْتَ ما اعْوَجَّ من أضْلُعِـي

وآمَنْتُ إيمانَ مَنْ لا يَـرَى

سِوَى العَقْل في الشَّكِّ مِنْ مَرْجَعِ

بأنَّ الإباءَ ووحيَ السَّمَاءِ

وفَيْضَ النُّبُوَّةِ ، مِـنْ مَنْبَـعِ

تَجَمَّعُ في “جوهرٍ” خالِصٍ

تَنَزَّهَ عن “عَرَضِ” المَطْمَـعِ

هكذا أن هوية الجواهري نمت وتطورت شيئا فشيئا بقدر ما امتلك من التأمل في حركة التاريخ , والتمحيص في دهاليز السياسة.

إن صورة الحسين التي توصل إليها أشرقت بثلاثة عناصر تتمثل في الإباء والوحي السماوي والامتداد النبوي، أي أنه يثبت البعد القيمي والبعد الديني معا.

محمد مهدي الجواهري

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×