“المحموص” من الجريش إلى الأرز الهندي
عبدالرسول الغريافي*
ارتبط المحموص في القطيف بمناسبتين، الأولى هي مناسبة وفيات أهل البيت (ع)، والثانية في ضيافة الزواج حيث كانت ضِيفة الزواج في وجبات العشاء ليلا فقط، وليست في الغذاء نهارا، كما وقد كانت هناك طبختان رئيسيتان في كلا المناسبتين وتلك الطبختان هما المحموص والبحاري.
بالنسبة لبعض المقتدرين كانوا يضيفون في ضيافة الزواج طبخة (القاورمه) وهي حمصة لحم بالنخج أو طبخة (القيمه) والتي تحتوي على (الآلو/القيسي) أي المشمش المجفف، وأحيانا يقتصر تقديمهما إلى خاصة الضيوف، وينسب الكثير طبخة البحاري في الأصل إلى البحّارة والغواصين الذين كانوا يطبخونه على (السريدي) وهو تنور يصمم فوق ظهر السفينة.
وتاريخ المحموص معروف في كل من القطيف والبحرين، وللمحموص مسميات مختلفة ففي بعض مناطق القطيف يعرف بالمبزر.
لقد عرف المحموص في القطيف من عصر الجريش، فهو ليس مقتصرا على الأرز فقط، إذ أن هناك الكثير من أرباب المآتم كانوا يطبخون الجريش بنفس طريقة المحموص (جريش محموص) قبل طبخ الأرز (العيش المحموص) وذلك حين كانت الوجبة السائدة في الجزيرة العربية هي الجريش؛ لتوفر حبوبها أكثر من الأرز آنذاك، فكان أغلب اعتماد أهالي القطيف في حصولهم على الأرز في البداية على ما تنتجه الأرض القطيفية من الأرز وهو ذلك الأرز الأحمر والمعروف (بالهنديه)، والذي امتدت أراضي مزارعه على ساحة البدراني قبل أن تغطيها رمال صحراء الدهناء، وقد كان يزرع بجانب النخيل وسائر الأشجار المعروفة من موز ولوز وتين ورمان وليمون أخضر وبوبي وغيره. في تلك الأرض التي امتدت من سيهات جنوبا حتى القديح وسائر المناطق الشماليه، إلى العوامية وصفوى وذلك لما فيها من كثرة عيون قد غمرتها بالمياه، حيث كانت عيون السيح في منطقة البدراني وحدها تفوق الستين عينا، وكان خير شاهد لزراعة الأرز الأحمر هي مزارع الأوجام التي استمرت زراعتة فيها حتى عام 1425 وذلك قبل وفاة المرحوم محمد بن دخيل الناصر؛ الذي كان آخر من زرعه في القطيف ومعه عائلته. وبوفاته انطوى قيد ملف زراعة الأرز الأحمر في القطيف، غير أنه ظهر فجأة من اهتم بزراعته بعد ذلك من جديد حيث عاد البعض يزرعه في أراضي (أبو معن) وهي إحدى مناطق القطيف الزراعية.
وقد أخبرني عبدالله آل زريع (أبو حسين) أنه زرع العيش الأحمر في مزرعته في (أبو معن) وذلك عام 1428 هجريه تقريبا على مدى عامين وقبل أن يبيعها، وقد وصف إنتاجه (بالممتاز جدا) حيث زرع نصف باب من مزرعته (خمسة شروب)، والتي وصل انتاجها الصافي إلى 400 كيلوغرام. وكان هناك من يزرعه في الأراضي المجاورة أيضا وهم من الأحساء، والذين امتلكوا أراض زراعية في نفس المنطقة.
وسبب اسهابي في ذكر العيش الأحمر (المعروف عند الأهالي بالهندية) هو ارتباطه باهتداء أهالي القطيف إلى فكرة (اختراع) طبخ المحموص، وهذا حسبما ذكره الكثير؛ إذ أن إضافة البصل إليه يزيد من شدة درجة احمرار لونه. ولعله بعدما أصبح استيراد الأرز الهندي الأبيض بأنواعه متيسرا وبوفرة؛ أهمل الناس زراعة الأرز الأحمر، وفي الوقت ذاته فقدوا مزيتة ومزية لونه الأحمر فحاولوا أن يعوضوا ذلك بإضافة كميات أكبر من البصل مع زيادة تحميصه لكي يصلوا إلى أعلى درجة للون الأحمر فجاء “المحموص”، هكذا كان البعض من الكبار ينسبون طريقة اكتشاف طبخ عيش المحموص. فإن كان هذا الأمر ثابتا فالعلاقة بين طبخ العيش المحموص والعيش الأحمر وطيدة.
إن التنافس في الإبداع في طبخه بين أهالي مناطق القطيف مستمر وبأنواعه الخمسة؛ باللحم والدجاج والسمك والروبيان وكذلك بالروبيان المموش (المخلوط بالماش أو العدس) وذلك لما للمحموص من طباخين ماهرين متخصصين في طبخه يظهرون بين آونة وأخرى فيزداد الطلب عليهم في أيام عاشوراء وفي مناسبات الزواج وليس كما هو الآن فقد اتقنه الكثير بفضل ممارسة طبخه. لهذا السبب كان الناس بين فترة وأخرى ينسبون أصل ظهور العيش المحموص من المنطقة التي تجيد طبخه وتتفنن فيه كلما اشتهرت تلك المنطقة بطبخه وازدهر انتشاره فيها.
واليوم أصبح العيش المحموص مقتصرًا على مناسبات الوفايات وأيام محرم إذ لم يعد يذكر في مناسبات الزواج مطلقا حيث تنوع الأكلات والطبخات في مناسبات الزواج. ومن ناحية أخرى أصبحت الكثير من العوائل القطيفية تطبخه في المنازل كلما اشتهت تقديمه للعائلة على وجبة الغذاء، بل وأصبح متوفرا في جميع الأيام حيث يتبنى طبخه هذه الأيام العديد من المطاعم والمطابخ.
__________
*باحث في الفلكلور الشعبي