سطوة الأدباء على الصوت الجديد المختلف

علي سباع

يقول صديقنا الأديب بن جونسون: “إني أعرف أن ليس من شيء يضيف إلى الأدب أكثر من دراسة آثار القدماء بشرط ألا نخضع لسطوتهم أو نأخذ مأخذ اليقين كل ما يصدر عنهم”

القدماءُ، ليس بالضرورة أن يكونوا شعراء العصر الجاهلي، القدماءُ نحنُ ربّما، على مسافةٍ مع الحاضرِ، الواثقون من أننا تجاوزنا البداية، بما يكفي لأن نكون كطلّاب السنوات الأخيرة في الدراسة الجامعية، نخبر طلاّب السنة الأولى عن طريقة تجاربنا.

ولكن.. ما هي الأبوّة في الأدب؟ هل تعني الخبرة؟ شاعرٌ سابق لديه تجربة؟ في دورة للإبتكار الحكومي حضرتها قبل عامين عن طريق منصات التواصل، قالت صاحبتنا في إحدى المحاضرات: الخبرة عدوّ الإبداع.

فكرة الإبداع تحتاج للتجربة، التجربةُ الحرّة، لكنّ تلك الخبرةَ بطبيعتها مرّت بتجارب قديمة مختلفة فتقيس تلك التجربةَ الجديدة على تلكَ وتبني القاعدةَ على القاعدةَ، حتى تجد نفسكَ في نسقٍ ثابت، محدود المخاطر، دون الولوج في أي تجربة حرّة جديدة، وكما يقول بوتنهام ووب: “إن أعظم خطأ يُرتكب في حق الشعر هو إضفاء صفة الجمود عليه”.

في الشعر كما في الكثير من المحطات الحياتية، يمرّ القطارُ ونصعده، قبل سنوات جلست مع إحدى الشخصيات الأدبية الجميلة، قلبه كبير، قارئ نهم، ولكن خانه الأسلوب فصارحني بأن نصوصي تحتاج لتعديل – قالها وهو يطفئ السيجارة – وعليّ أن أعطيه ليضيف بعض الكلمات ويحذف أخرى، ليصبح النص مثاليا.

فلنعد لقضية أخرى، مشكلة ما يحدث الآن، أمام هذا التسارع في التغيرات الحياتية، أن ذائقة الجمهور تتغيّر سريعاً، لم تعد ذائقة ما قبل 2010 هي ذاتها في 2020، وعلى هذا الأساس فإن الكاتب أو الشاعر في 2020 يعايش ذائقة مختلفة ويوازيها في الحركة، أما الشعراء القدامى فإنهم يتحرّكون ضمن مزاج محددٍّ بالرفقة، لم يتجاوز معظمهم إلى الجمهور الحديث، والذي بدوره سيقف في هذه النقطة وسيأتي مزاج آخر قريباً، حيث تختلط الأمزجة وتتحول الكتابة لمهرجانٍ حرٍّ، مثل عوالم التسوّق الاستهلاكي، يكتب الشاعر حتى يتشبّع الناس من تجربته، تبدأ تجربة أخرى، فيذهب ناحيتها الجمهور بشغف لاكتشافها، لن ينجو من هذه المغامرات إلا من يستطيع الركض مع الجمهور، لا لا بالتأكيد ليس هكذا، حتى وإن رأينا الخيول تسقط في المضاميرِ منهكةً، وتختفي الأسماء الكبيرة في الزحام، وتظهر أسماء أخرى مجهولةٌ، وتباع دواوينٌ ولم تشرَ أخرى، لابدّ أن هناك قاعدة ما، نقطة التقاءٍ تحتوي مسألة الذائقة دون المساس بحركتها.

نسيت أنني كنت أتحدث عن الأبوة، وعلى هذا ينبني الشعراء، لا النقّاد، الشعراء يبنون ناقدهم الداخلي بناء على تجاربهم، ذائقتهم محدّدة بمختبرهم، حتى وإن حضروا في مختلف المحافل، لابدّ وأن يصطادهم وهم الأنا، ولكنهم حين يمضي بهم سلك الزمن ناحية التجارب الجديدة يقرؤونها بطبيعتهم وبيئتهم، ويحاولون جاهدين السباحة لإدراك المفرطِ فيه.

نعترف وربّما لا يمكننا ذلك، أن قراءات الجيل الجديد، بيئتهم الحياتية، طبيعة المجتمع اختلفت، وعلى هذا فإن الأبوّة المدّعاة، محاولة الأخذ بزمام الشعراء الجدد، تتحوّل لنكبات مؤقتة فقط.

إذن وكإجابة موجّهة على سؤال ما هي الأبوة؟! فهي إذن السلطة على تحديد مسارات الآخر المبدع، إما لغرض إيجابيٍّ تنويري، أو لغرض أنانيٍّ، حتى أنّ البعض منهم يعمل كمكتشف للتجارب، فتراه يبحث ويتصيّد الكتّاب الجدد، ويحاول أن يقدّم المكاسب لهم ليكون الرجل المقدّم والمتصدي له ليصعد، على كل حال.. فإن الأبوة أو ما يطلق عليه بالأبوية بغض النظر عن طريقتها وأسبابها، يجب أن تستبدل بفكر القائد الموجّه، تماما كما يتواجد لاعب الخبرة في الملعب مع مجموعة من الشباب، يتشارك معهم بتجربته وهم بتجربتهم، ليكونوا فريقاً واحداً، لأن وجوده يشكّل فارقاً، فلا غنى أبداً عن الموروث الإبداعي لنستخرج منه تكويناً جديداً، وبالتأكيد فإن ذلك دون أن يمارس سلطة تجربته على الآخرين.

سؤال أخير لنفسي: كيف يمكنني الدخول في ملعبِ النص الجديد، أنا المتلبّس بمزاج القراءات الأدبية المختلفة والقديمة، كيف سيمكنني أن أواجه النص دون أن أشعر بنقصه الذي أقرؤه متيقناً منه؟!

أعود لبن جونسون، الذي بدأت به حديثي، بالتأكيد لا أعني من عدم الخضوع إلى الأبوة إنني ضدّ إهمال التراث، فهو القاعدة التي ينبني عليها الكاتب شئنا أم أبينا، لكن بشرط أن لا نخضع لسطوتها.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×