القيم الدينية
محمد حسين آل هويدي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم – … «35» إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ «36» – صدق الله العظيم – التوبة.
مفهوم الدين ليس موحدا بين الناس، بل حتى مفهوم الإله لا يتفق عليه البشر. لكل من الأديان الإبراهيمية تصور للإله العظيم. وهذه التصورات مختلفة تماما. بل حتى في الدين الواحد (أو حتى المذهب الواحد)، تصور الإله مختلف. لذلك، من المؤكد أن تختلف القيم الدينية لدى الناس طالما اختلف مفهوم توحيد الألوهية. هذا موضوع نناقشه لاحقا.
هناك قيم ترتكز عليها أكثر الأديان؛ حتى البشرية منها. البعض يناقش ويتساءل عن أهمية ومهمة الدين. الدين مهم للفرد. تركيبة الإنسان الفطرية تقوم على الحدس الديني. البعض يختلف في تحديد مهام الدين. لا نُخَطِّئ أحدا في تحديد هذه المهام، ولكن الدين يؤسس ثلاث قيم مهمة جدا، وهذا ما دعا إليه الأنبياء والرسل والمصلحون: المبدأ، والأخلاق، والقانون. في تصوري، ليس العلم الطبيعي والتجريبي من مهام الدين، وذلك لأن هذا العلم يتغير ويتطور مع الزمن ويتبدل حسب مفاهيم الناس ومعارفهم. ولكن تركيبة الإنسان لا تتغير كثيرا. كذلك، هذه القيم لا تتبدل. القتل مرفوض منذ بداية الخليقة، ولا يزال. وكذلك الكذب والسرقة.
ما الفرق بين هذه القيم الثلاث؟
المبدأ (moral) أمر شخصي. لكل منا مبدأ. مثلا، مبدأ عمرو لا يسمح له بالكذب مهما حدث. مبدأ زيد جواز الكذب للوصول إلى نتائج أفضل. مثلا، لا يمكن أن تقول للشخص البشع إنه بشع؛ ولو سأل، ربما لا تجيبه بالحقيقة. ثم قد يكون مبدأ شخص ثالث الكذب في كل شيء. المبدأ ضابط داخلي للإنسان، وهذا أمر أشبعه الدين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ).
الأخلاق (ethics) قضية جمعية أفقية. كيف تتعامل مع الآخرين؛ سواء كانوا أصدقاء أو أعداء. حتى للحروب أخلاق. يروى في معركة صفين أن جيش معاوية منع الماء عن جيش علي، حتى كشف الإمام علي وأصحابه الجيش الأموي عن الماء. ولكن عندما تمكن، علي لم يمنع الماء عن جيش معاوية. هكذا تكون الأخلاق، حتى في أحلك الظروف. كما يروى أن جيش عمر بن سعد بن أبي وقاص منع الماء عن مخيم الحسين في موقعة كربلاء. وهذه قمة في الدناءة والخسة، وأسوأ مما فعله معاوية في صفين. معاوية كان يواجه جيشا قويا لا يضمن الفوز عليه، ومن حيل الحرب منع الموارد أو حصار العدو (طبعا هذا ليس مبررا للفعل). ولكن دليل خسة جيش ابن سعد أنهم يعلمون أن كل موازين القوى في صالحهم؛ ثلاثون ألف (على أقل تقدير) قبالة سبعين رجل. طبيعيا، هذا الجيش الضخم سيهزم سبعين رجلا مهما كانت قوة وشجاعة هؤلاء السبعين. في مثل هذه المواقف، تظهر الأخلاق على حقيقتها. وهي رسالة للأجيال المتعاقبة إن كان عندهم التباس مع أي جهة يقفون.
أما القانون (law) فهو الحكم بين الناس بالقسط. المجرم يسجن. الميراث يوزع بالعدل. القانون رادع للفرد إذا عجز عن ضبط مبادئه وأخلاقه. هنا يأتي دور الفقه؛ ضبط القوانين بين الناس. مع وجود الدول الحديثة وتخالط الأعراق والأديان والمذاهب تحت رقعة جغرافية واحدة، الكثير من الدول استبدلت هذه القوانين الفقهية بقوانين وضعية تحكم بين الناس بالتساوي. مثلا، في الدول الإسلامية لا يمكن أن يفطر المسلم علانية ويمشي في الطريق وهو يأكل على مرأى ومسمع من الآخرين لما في ذلك من خدش للمبادئ والأخلاق، ومنها يحق للشرع أن يمنع هذا المفطر من فعله ويردعه ولو بقوة القانون. مثل هذا الطلب قد لا يتحقق في دولة أوربية علمانية. لا تستطيع أن تجبر غير المسلمين بالصيام في بريطانيا مثلا. كذلك، لا تستطيع دولة علمانية معاقبة المسلم إذا شرب الخمر وذلك لأن هذا أمرا مسموح به هناك ولا يمكن لها قانونيا أن تميز بين المسلم وغيره في الأحكام.
هذه القِيَم من أهم أسس الأديان. البعض يحاول أن يوسع دائرة الدين ليشمل العلوم التجريبية والاقتصاد وعلوم النفس والاجتماع وكل شيء آخر. هؤلاء يتدخلون في مجالات ليس من تخصصهم ويسيئون للدين لأن ليس هذا هو دور الدين. دور الدين على الأرض ضبط المعاملات الإنسانية ومنع الفوضى. هناك طرف آخر يحاول أن يُضَيّق حلقة الدين ويسلبه حق التشريع قانونيا. يسمى هذا الطرف علمانيا لأنه لا يتدخل في المبادئ والأخلاق، ولكنه يتنصل من حاكمية الدين على الناس. طبعا، نقول الدين مجازا وذلك لأن لكل فرد تعريفه الخاص بهذا الدين، وربما ما يحاول أن يطبقه المشرع ليس من الدين أساسا، ولكنه وقع في اشتباه وخلط بين العرف والدين. أو شَرَّع لأمنياته حتى بات يريد أن يغزو العالم ليقتل رجالهم ويستعبد غلمانهم ويستحل نساءهم. وعندما يتكلم بعض منسوبي الدين بهذه اللغة الغريبة في هذا الزمن فهم واقعا يرجحون الفكر العلماني على حاكمية الدين دون علم منهم.
الوضع الراهن، وعلى مستوى العالم، يقلص من التشريعات الدينية للأسباب المذكورة آنفا. بل بدأ يخاف من التشريعات الدينية بسبب الأفكار الشوفينية التي يروج لها البعض باسم الدين. الناس سترى أن هذا الشخص خطير. هذا إن كان شخصا واحدا فقط. أما أن تجد جحافل من الناس تروج لمثل هذه الأقاويل فعلينا أن نتوقع تدخلات خارجية ولو بالقوة لكبح هذا الجماح ومنع هذه الأفكار التي لم تعد مقبولة في هذا العصر.
في تصوري الخاص، أرى أن القيمة الثالثة التي تستند للحاكم الشرعي الديني ستتقلص كثيرا ولن يبقى لها وجود مع بداية القرن المقبل. ومنها على المعنيين التركيز على حلقة الدين ذاتها دون التشريق والتغريب. وعليهم أن يرسخوا المبادئ والأخلاق أكثر فأكثر، وذلك لأن هذه الأمور تبني الفرد وتنظم المجتمع، ومنها يستفيد الجميع. أما محاولة حكم العالم بالأفكار المحلية فإنها ستبوء بالفشل وستسيئ للدين. وسيستخدم مناوئو الأديان هذه الأمور كذريعة لمنع الناس من أديانهم في المستقبل، وربما قد تسن قوانين عالمية صارمة لمنع مثل هذه الأفكار من الرواج.
وعليه أن نضبط أنفسنا ونقدم ديننا بأنه دين مبادئ ومثل وأخلاق وتسامح وأنه يتطور مع الزمن وأنه قابل لاحتواء الجميع، مهما اختلفوا. وهذه مسؤولية تقع أولا وأخيرا على من يتصدى للأمور الدينية والتشريعية. ما يقوله صاحب العمامة سيكون محسوبا على الجميع. وعليه، على من يهمهم الأمر ضبط مثل هذه الأمور أيضا، وذلك لأنها قد تضر أكثر مما تنفع. لابد من اختيار الشخص المناسب والكفؤ للتحدث باسم الدين، كما اصطفى الله المؤهلين والأخيار للتبليغ عن دينه (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).