العلماء وسطوة الجماهير
حمد الماجد* |
أعجبتني مقولة مفكر معاصر، حين وصف سلطة الجماهير وسطوتها في عدد من الدول العربية والإسلامية على العلماء في زماننا هذا، بأنها تضارع سلطة الزعماء المتسلطين وسطوتهم. الفرق أن الجماهير ليست بيدها أدوات القمع؛ لكن بيدها قوة ناعمة، وعندها القدرة على شن الحملات الإعلامية المرئية والمقروءة والمسموعة. وزاد من السطوة الجماهيرية دخول وسائل التواصل الاجتماعي في المعادلة، والتي مكنت أي فرد من الجمهور من أن يكون رئيس التحرير للوسيلة الإعلامية، ومالكها، والمحرر، والرقيب، وصارت «الترندات» سلاحاً نووياً إعلامياً بيد من هبّ ودبّ ومشى ودرج، يطلقها أحدهم في فضاء «النت» وهو مستلقٍ على سريره أو متكئٍ على أريكته، ثم «ينام ملء جفونه عن شواردها… ويسهر الخلق جراها ويختصم».
ولأسباب كثيرة أمسى عدد من العلماء في العالم الإسلامي والعربي رهين سطوة الجماهير واعتراضاتها الهادرة، يكتم قناعاته ويهمس سراً بآرائه، ويتستر على فتاواه التي يتوقع لو نشرها أن تُحدث ردود فعل تبكيتية عنيفة. والاعتراضات تأتي دائماً من مدرجات الجماهير في أقصى اليمين، أو من مدرجاتها أقصى اليسار، فالمحافظون جداً سيعترضون بشدة على ما يظنونه «تفلتاً وتميعاً»، ومن يصفون أنفسهم بالمتفتحين والتنويريين سيرتفع هدير احتجاجاتهم ضد ما يصفونه بتزمت فتاوى العلماء وتشدد آرائهم، وتظل الجماهير المتمركزة في «منتصف» المدرج، ذات الصوت الهادئ الخافت، هي الأغلبية الصامتة التي تتفهم آراء العلماء مهما تباينت، وتبرر اختلافاتهم مهما توسعت، ولا تصف العالم بالتشدد حين يختار العزيمة، ولا بالتفلت حين يراعي التسهيل على الناس.
واللافت أن العلماء في القرون الماضية لم يكن موقف الجماهير يشكل لها هاجساً، فيطرح قناعاته وما اهتدى إليه بعد بحث علمي وتقص طويل، فكان لعدد كبير من العلماء آراء مثيرة للجدل؛ بل لا يكاد عالم من العلماء أن يخلو من الأخذ برأي يعتبره المخالف له رأياً شاطحاً، حتى سمعنا من يحذر منه، ويقول: «لكل عالم هفوة، ولكل شيخ زلة»، وهذه التي وصفوها بالهفوات والزلات هي في الحقيقة فتاوى وآراء اجتهادية انطلقت من قناعاتهم. وبيت القصيد هنا أن العلماء القدماء لم يكترثوا في الجملة لردود أفعال الناس في زمانهم، أو لعل الجماهير في تلك الأزمنة أكثر وعياً وأشد تقديراً لاختلافاتهم، مهما كانت مثيرة للجدل.
المشكل الآخر أن عدداً «قليلاً» من العلماء في عالمنا الإسلامي والعربي في الأزمنة المتأخرة، صاروا أسارى بيئتهم في أحكام الفقه المختلفة، كطرائق اللبس، وسبل التسلية والترفيه، وأحياناً هم أسرى أو ضحايا للصراعات الآيديولوجية بين التيارات الفكرية والعقائدية، فقد يرى العالم في قرارة نفسه حكماً شرعياً تجاه مسألة معينة، كهيئة حجاب المرأة، مثلاً، وهو ما يوافق هوى إحدى التيارات المتنافسة، فإن أطلق هذه الفتوى تعرض لتبكيت شديد من التيار الأكثر محافظة، وإن كتم قناعته وفتواه، رأى آخرون أنه لم يؤد دور العالم الحقيقي الذي يفتي، ولسان حاله كذاك الذي يناجي الذات الإلهية:
«فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب»
على العلماء مسؤولية أدبية ثقيلة للتصريح بفتاواهم المنطلقة من قناعاتهم، وما اهتدت إليه أبحاثهم ومداولاتهم، دون التحسس المفرط في رأي الجماهير وردود أفعالها.
وهذا بالتأكيد لا يتناقض مع «حسن تقدير» العالم للحال والزمان والمكان التي ورد فيها الاستفتاء.
بين الإفتاء بقناعة العالم دون الاكتراث بسطوة الجماهير، وبين مراعاة الحال، خيط رفيع لا يراه إلا الراسخون في العلم والعقل والحكمة (ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً).
_____________
*صحيفة الشرق الأوسط، الثلاثاء – 17 رجب 1439 هـ – 03 أبريل 2018 مـ رقم العدد [14371]