الخروجُ من الـ “غيتو” المذهبي! نقاش الصحوة الشيعية ليس عراكاً من أجل الغلبة.. بل إيماناً بـ "العقل النقدي"

حسن المصطفى*

ذات مرة، كان مجموعة من الضيوف “المهمين” في زيارة إلى مسؤول سعودي رفيع، وجاء الحديث متسائلاً: على من تقع مسؤولية هؤلاء الشباب الذين خطفهم “الإسلام السياسي” ودفعهم إلى العنف؟ وبدأ كل واحدٍ منهم يلقي بالملامةِ على جهة ما. وقتها، قاطعهم مُضيفُهم بأدبٍ وحزمٍ، وقال: نحنُ جميعاً مسؤولون، تفضلوا لتتناولوا طعام الغداء!

***

المجتمعاتُ الحيوية، هي تلك القادرةُ على مراجعة أفكارها، وتحسسِ ملامحها بجرأة، دون خوفٍ أو قلق. هي تلك التي تشيرُ إلى مواضعِ الضعف في جسدها، لا لتبترَ يداً أو تُعطبَ عيناً، وإنما لتصفَ الدواء، الذي يكونُ طعمهُ علقماً أحيانا، وأخرى رحيقَ عسلٍ!4

العقلُ الوقاد، هو المتجاوز للسائد، النافضُ للرتابة، العابرُ التجارب واحدةً تلو أخرى، نحو مغامرة أكثر تعقيداً ومتعة وألماً. هي  دربٌ لا نهائية من أسئلة متناسلة، واحدة تتبعها أخرى، تعيد ترتيب منظومة الفكر والقيم والدين والسياسة والاجتماع، وتعيد أيضاً إنتاج أخطائها؛ أوليس “تاريخ العلم” هو “تاريخ الأخطاء” كما يقول غاستون باشلار؛ فدون الأخطاء لن تكون هنالك “فتوحات كبرى”، وسيكون العلم وكأنه خطٌ أفقيٌ يشيرُ إلى نهايات حتمية باردة ومميتة.

هذه المراجعاتُ والنجاحاتُ والخيباتُ، ليست مجرد كتابات، بل حيوات تعاشُ، تسقطُ فيها أرجلٌ وتسرعُ أخرى. تكون في الظل أحايين كثيرة، وقليلٌ ما تشرق عليها الشمس الحارقة، خصوصاً في مجتمعاتنا “الخجولة” التي لا تريد أن تنزع فساتينها أمام الأشعة الذهبية وتستلقي دون أقنعة على الرمال الساخنة.

من هنا، نجدُ المجتمعات المحافظة، كما هو الحال في السعودية، تتهيبُ من “الاعتراف”، أو “مساءلة الذات”، لأسباب ذات طبيعة معرفية – نفسية، تضرب بحبالٍ متينة في ذهنية الفرد: الرجولة، العيب، اليقينيات المطلقة!

المواطنون في القطيف، هم جزء من هذا السياق، وليسوا بنبتٍ غريبٍ عنه. ولذا نرصد ردود فعلٍ متفاوتة على ما يكتب من مواد سجالية عن الدين ودوره في حياة الفرد.

ردات الفعل هذه، حتى المتشنجة منها، سلوك طبيعي، من المتوجس، الخائف، القلق، أو المعتاد على التشابه والمطابقة. ولذا، التغيير عملية تراكمية، تحتاج وقتاً، وشجاعة؛ ومن حُسن الحظِ، أن هذه العملية لم تتوقف، بل بدأت قبل أكثر من عشرين عاماً، في مراجعات نقدانية جرئية لخطاب “الإسلام السياسي الشيعي”، والتنظيمات المرتبطة به، وكانت هذه النقاشات تدور بين مجموعات من أبناء هذه التيارات أنفسهم، ورهطٌ من المثقفين السعوديين الشيعة، الأمر الذي أسس لتغييرات حقيقية ومؤثرة، تستحق أن ترصد بداياتها في مادة مستقلة، تعطي تلك الحقبة حقها، توثق بموضعية لتاريخ ذو طابع “شفاهي”، لم يكتب عنه الكثير، تداخلت فيه العديد من العوامل الداخلية والخارجية.

الناقد محمد العباس، وفي مقالته “ما يصعبُ ويجبُ قوله في الصحوة الشيعية”، المنشورة في صحيفة “صبرة”، يلتحقُ بركبِ قافلةٍ من الفاعلين والمثقفين الجادين في مساعيهم نحو نفضِ الكسلِ عن العقل، والحث على التفكير المستقل. وشخصياً، رغم وجود عدة ملاحظات نقدية ومنهجية على مادته – لا يتسعُ المجال لمناقشتها الآن – إلا أنني أجد أنه لا ينبغي التعامل مع نص العباس بحساسية وجفاء -كما فعلَ البعض – بل علينا جميعاً أن نؤمن بأن “حرية التعبير” و”الحق في الاختلاف” هي أمورٌ طبيعية، بل ضرورية، وصفةٌ تلازم المجتمعات المدنية الحديثة، وإحدى علامات تحرر الفرد ونضجه. وأي مجتمع حيٍ هو ذلك الذي تتنوع وتتناقض فيه الأفكار، وتتساجل بعلمية فيما بينها، ودون عنف أو تحريض أو ترهيب.

الأهم، أنه واثناء نقاش موضوع “الصحوة الشيعية”، أن لا يتحول هذا الحراك الفكري إلى تراشقٍ بالحجارة الصلدة، أو معركة من أجل الغلبة! كما من المفيد أن تكون الحلولُ المعرفية من خارج الـ “غيتو المذهبي”، وأن تجنحَ للمنظور الفلسفي الإنساني، برؤية بعيدة عن الطائفية والمناطقية والهويات الضيقة. لأن المطلوب هو بناء سياق وطني جامع، مدماكه الأساسي الإيمان بـ”العقل النقدي”، القادر على تقعيد مفاهيم حديثة مثل: “المواطنة الشاملة”، “سيادة القانون”، “الدولة المدنية”.

*كاتب وباحث سعودي

اقرأ أيضاً

ما يصْعُب ويجب قوله في الصحوة الشيعية

تعليق واحد

  1. ينصر دينك يا استاز…. خلف خلاف
    (اثنين مش طابقين بعضهم خالص)

    لكن لم تخبرنا كيف يتم الابتعاد عن المذهبية والمناطقية
    وصاحب المقال موضوع الرد يتحدث عن الصحوة الشيعية في القطيف
    فهو اساسا حدد مذهب ومنطقة بل مدينة معينة

    نعم لو كان هو كلامه عام دون تحديد مدينة ودون تحديد مذهب معين لكانت الردود عليه عامة تشمل كل المذاهب وكل الوطن بل وكل العالم العربي والإسلامي بل أعم

    الجواب على قدر السؤال
    نعم نقبل الحوار والنقد والرأي الآخر
    لكن لا نقبل باستجلاب عيوب وأمراض الغرماء والخصوم ثم الباسنا اياها والقول بأننا جميعا مخطئون على السواء
    هذا يسمى خلط
    ((الصحوة الشيعية لم تتبنى المنهج الداعشي ولم تفجر مساجد أو استراحات أو المخيمات الصيفية للآخرين ))

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×