معيار الحق والباطل.. رؤية حول تصحيح النظرة حوارٌ صريح بين الإمام الباقر وصاحبه زرارة
علي الفرج
تحفل العديد من الآيات القرآنية الشريفة بالإشارة إلى أنّ الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إلى أقوامهم كان كلٌّ منهم امتداداً لحركة الآخر ولدعوته، وأنّ كلًّا منهم مصدّق للآخر ومتّبع لهديه. وهي الإشارات التي تؤكّد أن الرسالات الإلهية هي حركة تدرُّج تبليغي يتمّم بعضها الآخر ولا يضادّه، وأن العلاقة علاقة تكامل لا علاقة تنافر.
وممّا يؤسف عليه ألَّا تحكم طبيعة هذه العلاقة التي تؤكّدها الآيات الكريمة أتباع هذه الرسالات، بحيث يسعى كلٌّ منهم إلى اكتشاف ما بين هذه الرسالات من تكامل وتصديق كلٍّ منها للأخرى. بل المؤسف أن تنتقل علاقة التنافر بين أتباع الرسالات المتعدّدة إلى أتباع الرسالة الواحدة، فتجد العلاقة بين أبناء مذاهبها هي علاقة تنافر أيضًا، فيما من المفترض أن تكون أفهام هذه المذاهب وما أنتجته من علوم ومعارف كلٌّ منها يتمّم فهم الآخر ويضيء ما أغفله المذهب الآخر. إلى أن نصل مؤخّرًا إلى انقسام المذاهب إلى تيّارات وتوجّهات، كلٌّ منها يحارب الآخر ويرفضه.
وما تعيشه مجتمعاتنا اليوم سبق أن نبّه أئمتنا (ع) من الوقوع في شراكه، وذلك فيما ترويه المجاميع الحديثية، ومن ذلك ما ورد عن زرارة بن أعين أنه دخل ومعه حمران بن أعين أو بكير بن أعين على الإمام الباقر (ع)، فقال (زرارة) للإمام: «إنّا نمدّ المطمار»، فقاطعه الإمام سائلًا: «وما المطمار؟»، فأجابه: «التُرّ»، واستأنف: «فمن وافقنا من علوي أو غيره تولّيناه، ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه». فردّ الإمام (ع): «يا زرارة، قول الله أصدق من قولك. فأين الذين قال الله عز وجل: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ [النساء: 98]؟، أين المرجون لأمر الله؟، أين الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا؟، أين أصحاب الأعراف؟ أين المؤلفة قلوبهم؟!
فلما كثر الكلام بينهما، قال الإمام (ع): يا زرارة، حقيق على الله أن يدخل الضلال الجنة. فقال زرارة: كيف ذلك جعلت فداك؟، قال: يموت الناطق ولا ينطق الصامت، فيموت المرء بينهما فيدخله الله الجنة» [الكافي للكليني، ج2/ 382؛ الغيبة للشيخ الطوسي، ص 460]. (1)
المطمار أو الترّ الذي ورد في الحديث: خيط يقيس به عامل البناء ليقيم من خلاله الجدران وما شابه ذلك. وقد أراد زرارة أنه يتعامل مع الآخرين بناء على موافقتهم له في المواقف والمبادئ، لينهاه الإمام الباقر (ع) عن هكذا مبدأ في التعامل ويذكّره بالمبدأ القرآني المتسامح الذي لا يصنّف الناس في المجتمع إلى فئتين موافق ومخالف فقط، فبين هاتين الفئتين فئات متعدّدة، ذكر له منها: الفئة المستضعفة التي لم تهتدِ إلى طريق واضح لقلّة حيلتها أو مرورها بظروف اجتماعية قاهرة (كما يفهم من سياق الآية)، وإلى جانبها مجموعة من الفئات المتباينة: المرجاة إلى أمر الله، وأولئك الذين خلطوا أعمالًا صالحة بأخرى سيئة، وغيرهم من الفئات، إلى أن ينتهي الحديث بالإشارة إلى أنّ حتّى أولئكم الذين ضلّوا الطريق يمكن أن يدخلوا الجنّة كذلك.
———
(1) من نافل القول إن هاتين الروايتين سندهما صحيح.