[6] بستان السيحة وسمر في الذاكرة أحمد السنان.. مثقف رائد لا يعرفه جيل اليوم
عدنان السيد محمد العوامي
الحركة الأدبية والعلمية في القطيف
زمن زيارة بنت الشاطئ
الرموز العلمية والأدبية القطيفية التي ذُكرت في الحلقات السابقة من (بستان السيحة وسمر في الذاكرة)، ليسوا وحدهم ممثلو المشهد الثقافي في القطيف بكامله زمن زيارة الدكتورة عائشة عبد الرحمن “بنت الشاطئ” للقطيف، بل معهم آخرون لم تذكر أسماؤهم، سواء من حضر السمر، ومن لم يحضر، وإنما أشير إليهم بعبارة (وغيرهم)، ومن وردت أسماؤهم، وأعطيت لمحة عن حياتهم لم تكن كافية للتعريف بنشاطهم ودورهم وإسهاماتهم في الحركة الثقافية في القطيف في تلك الحقبة من الزمن، أو من حضر ولم يذكر سمه، أو لم يكن حاضرًا البلد سواء للدراسة في الخارج، أو في هجرة مؤقتة أو دائمة، فهم لم تنقطع إسهاماتهم ومشاركاتهم، ولا صلاتهم بذويهم ومعارفهم.
هؤلاء رجال أدوا دورهم في خدمة بلدهم، وبقي دورنا نحن ومسؤوليتنا في إحياء أثرهم وإبلاغه للنشء الجديد والأجيال القادمة، وإن عزَّ فلا أقل من تجديد ذكرهم، وهذا أضعف الإيمان، فلنعرض ما حفظته لنا ذاكرة التاريخ من نشاطهم وما كتبه غيرهم عنهم، مرتبين بحسب حروف الهجاء:
أحمد بن حسين السنان
(هو أحمد بن حسين بن محمد بن أحمد السنان، وأسرة السنان من الأسر العريقة التي استوطنت القطيف منذ قرون، ويقال إنها متحدِّرة من حميَر، ولا يُعرَف منذ متى استوطنت القطيف؟ ولكن ورقة وقفية نخل (زدادان)، وهو نخل كبير [في جزيرة تاروت] أوقفه أحد أفراد هذه الأسرة([1])، تاريخها عام 937 هـ – 1530م([2]). كما إن الشيخ جعفر الخطي الشاعر المشهور – وقد عاش في أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر للهجرة (توفي عام 1028 هـ – 1619 م )، هذا الشاعر له مدائح ومراثي لبعض أفراد هذه الأسرة [واسمه محمد بن جعفر بن علي ابن أبي سنان] ([3]).
وفي القرن الرابع عشر الهجري كان في القطيف عدد غير قليل من رجالات وشخصيات هذه الأسرة الكريمة، ممن كان لهم ثقلهم ومركزهم ووزنهم الاجتماعي، ومنهم والد مترجَمِنا المرحوم الحاج حسين بن محمد السنان، وهو شخصية عُرِفت بالاتزان والكرم والنبل([4]).
وكان الحاج حسين من أوائل مَن اقتنى سيارة في القطيف، لكنها جاءت قبل أوانها، فلم تُعَمِّر طويلاً،؛ إذ لم يكن في المنطقة – وليس القطيف وحدها – ولا شارع واحد مسفلت، كما إنه لا يوجد ولا محطة واحدة للوقود، ولا محل – ولو صغير – لبيع قطع غيار السيارات، وقد أصيب الحاج حسين في أواخر حياته بمرض اضطره للسفر للبحرين للعلاج، فأخذ كل أفراد أسرته وعائلته وأقام معهم في البحرين، وفي مدارس البحرين درَّس أطفاله الصغار، وقد توفي هناك، وبعد وفاته([5]) عاد أفراد الأسرة للقطيف، وفي كنف هذا الوالد نشأ وترعرع مترجَمُنا.
ميلاده ونشأته:
ولد أحمد بن حسين السنان بمدينة القلعة بالقطيف عام 1326هـ، 1908م، وتوفي في شهر ذي القعدة عام 1382 هـ، إبريل عام 1963م، وقد نشأ في كنف والده الكريم – وهو أكبر وُلْده – ودرس في أحد الكتاتيب – وسيلة التعليم الوحيدة بالقطيف يومذاك – وعندما تخرَّج مارَسَ إدارة أعمال أبيه: الإشراف على أملاكه من نخيل وبساتين. كما أنه عمل على تثقيف نفسه بالمطالعة والقراءة، شأنه – في ذلك – شأن أترابه من أبناء العوائل والأسر الأخرى؛ إذ لم يكن – يومها – بالقطيف أي نوع من مؤسسات التعليم ما عدا الكتاتيب.
ثقافته:
يعتبر أحمد حسين السنان من طليعة الشباب المثقف في القطيف من الجيل الذي سبق جيلَنا، فهو من أوائل ـ إن لم يكن أوَّل – مَن اشترك في الصحف والمجلات، حينما كان مجتمع القطيف يجهل هذا النوع من وسائل الثقافة، فقد كان مشتركا في مجلتي المقتطف والهلال([6]).
ولقد كانت هاتان المجلَّتان – فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية – من أفضل الصحف الفكرية والثقافية والأدبية – لا في مصر وحدها – بل في كل البلاد العربية، كما اشترك في مجلة العرفان التي كان يُصدِرها المرحوم الشيخ أحمد عارف الزين([7]) من بيروت، وحينما ذهب للبحرين بصحبة والده اتصل بشباب البحرين المثقف، واشترك معهم في تأسيس (نادي العروبة) ([8])، وبعد عودته للقطيف – إثر وفاة والده- فتح بيته للشباب، فكان له مجلس ليلي يرتاده الشباب، وكان هذا المجلس بمثابة منتدى أدبي، وكان المرحوم خالد محمد الفرج، الشاعر المعروف، أحد رواد (مرتادي) هذا المنتدى، وحينما قامت الحرب العالمية الثانية، وأصبح الناس يهتمون بأخبارها.
ولم يكن في القطيف – يومذاك – أيُّ وسيلة من وسائل الإعلام يَعرف عن طريقها الناس أخبار الحرب كان أحمد حسين السنان من أوائل مَن استورد جهاز راديو من البحرين – ماركة (فيلبس) من النوع الذي يعمل على بطارية سائلة مثل بطاريات السيارة – فكان بيته مجمعًا للشباب يستمعون للأخبار ويعلقون عليها، وكانوا مشدودين إلى القسم العربي بإذاعة برلين حيث كان يذيع فيه (يونس بحري) الإذاعي المعروف([9])، وكان يسحرهم بفصاحته، وتعليقاته الساخرة، وكان الكثير منهم يجهل، أو لا يستطيع أن يفهم، ماذا تعني الأخبار. فكان خالد الفرج يشرح لهم ما يكون غامضًا عليهم، وكان يتحدَّث لهم، كثيرًا عن (يونس بحري)؛ لأنه يعرفه شخصيًّا، والتقى به لما كان خالد لا يزال في الكويت([10]).
لقد كان أحمد حسين السنان أحد الذين حملوا مشعل الثقافة والتنوير في بلده، حينما كان هذا البلد يعيش في عزلة عن عصره، ولا يعرف شيئًا عما يدور حوله في البلدان العربية الأخرى: مصر والشام والعراق وغيرها، فهو من الرواد الأوائل الذين أوقدوا شمعة في الظلام الحالك، وحاولوا إنارة الدرب، رغم العتمة الشديدة، ونقص الوسائل المتاحة أمامهم، فرحمك الله يا أبا عبد الغني، وجزاك عن شعبك وبلدك أفضل الجزاء)([11]).
أرأيت؟ أديب ووطني مثقف، وعلى اطلاع واسع بعصره وأحداثه، بهذا الوزن الذي يمثله السيد علي العوامي (رحمه الله)، يصف القطيف بالعزلة، وهو نفسه حدثني عن مجلس الأستاذ أحمد هذا أن الشاعر خالدًا الفرج فاجأهم في أحد الأيام بأن دخل عليهم في منتدى السنان ومعه بدوي، بدائي الهندام، فلم يهتموا به، وبعد فترة طويلة من جلوسه عرَّفهم بأنه الشيخ حمد الجاسر (رحمه الله)، وكانوا يعرفون الشيخ، من كتاباته، لكنهم لم يروه، ولم يروا صورته، عندها نهضوا جميعًا ورحبوا به واعتذروا من عدم استقباله الاستقبال اللائق لجهلهم به، ودعوه إلى وليمة، وهذه بداية صلة الشيخ الجاسر (رحمه الله) بالقطيف. المعروف أن الشيخ بسيط حتى في هندامه.
———-
([1])اسمه في الوقفية نصًّا: >الحاج سنان ابن المقدس السعيد الحاج راشد أهل الآجام<، ومن هذا يفهم أن هذه الأسرة الكريمة تنتسب إليه.
([2]) [شيء عن الوثائق] عدنان السيد محمد العوامي: مجلة الواحة العدد (2) ربيع الثاني. 1416هـ سبتمبر 1995م.
([3]) ديوان الشيخ جعفر الخطي، تحقيق الخطيب السيد علي بن الحسين الهاشمي، مطبعة الحيدري، طهران، 1373، ص: 95 – 96، [وتحقيق عدنان السيد محمد العوامي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2005م، جـ1/313 ، وجـ2/96.
([4])معلومة من الذاكرة: في بواكير صباي كنت أتردد على القلعة زائرًا بعض أقربائي، فأجتاز ببيته، وأرى الفقراء يتزاحمون على باب بيته (رحمه الله)، وأنا محاسب على هذه الشهادة أمام الله.
([5])ولد الحاج حسين عام 1306 هـ، 1889م، وتوفي (رحمه الله) في ربيع الأول عام 1360 هـ، إبريل 1941م.
([6])تعرف أدباء القطيف على الصحافة منذ العهد العثماني، فناهيك حكاية الصحف التي وجدت في صقور آل جمعة، وقد أشرت إليها في مقالي ميناء القطيف مسيرة شعر وتاريخ، كذلك عرضت رسالة بولس هاريسن إلى علي بن منصور إخوان، رئيس بلدية القطيف العهد العثماني ومرفق بها مجلات مصرية ولندنية.
([7])ولد في مدينة صور في شهر رمضان 1301هـ، يوليو 1884م، وتوفي (رحمه الله) في مدينة مشهد في 24/4/1380هـ 15/10/ 1960م. شاعر وأديب وصحافي. عمل مندوبًا لجمعية الثورة العربية في صيدا، ورئيس لجنة الدفاع عن فلسطين. حكم عليه بالسجن عدة مرات في عهد السلطنة العثمانية، وفي عام 1925 اعتقل بتهمة مناصرة الثورة السورية، كما تم اعتقاله عدة مرات بسبب مناهضته للانتداب الفرنسي .أصدر مجلة «العرفان» في بيروت عام 1909، ونقلها إلى صيدا عام 1912، ثم أصدر جريدة «جبل عامل» عام 1911، وفي عام 1912رئس جمعية نشر العلم. منح وسام الاستحقاق الذهبي عام 1951. مقالات تاريخية، ص: 139 – 164.
([8])نادي العروبة وخمسون عاما [1939 – 1989)، تقي محمد البحارنة، ص: 9، و 2
([9])يونس صالح بحري، كاتب وصحافي ومذيع وسائح مغامر. ولد في الموصل عام 1903م، وتخرج من مدارسها، ثم عمل بوظيفة كتابية في وزارة المالية. وفي عام 1923م غادر العراق سائحا في عدد من الدول الأوروبية والآسيوية، واشتغل هناك بعدد من المهن، وفي عام 1925م عاد إلى العراق، ولكنه غادره مرة أخرى، وفي عام 1930م ذهب إلى أندونيسيا، وفيها أصدر مع الأديب الكويتي عبد العزيز الرشيد مجلة باسم (الكويت والعراقي)، وأصدر مجلة أخرى هي (الحق والإسلام)، وفي عام 1931م عاد إلى العراق فأصدر جريدة باسم جريدة العُقاب. و خلال الحرب العالمية الثانية في عهد هتلر عمل مذيعا في إذاعة برلين العربية في ألمانيا، وكان يبدأ خطاباته بـ(حي العرب)، وقد طبع ما أذاعه في عام 1956م في بيروت تحت عنوان (هنا برلين)، وخلال تلك الفترة عمل إماما وخطيبا في عدد من الدول الأوروبية، وبعد ثورة 14 تموز 1958م اعتقل لفترة وجيزة تم إطلق سراحه، وعاش منبوذًا حتى توفي (S) على أحد أرصفة شارع السعدون ببغداد عام 1979م. له العديد من المؤلفات. موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين، د. عمر محمد الطالب. مادة: (يونس).
([10])قام يونس بحري – فيما بين الحربين العالميتين – برحلة سياحية طويلة، زار فيها كل بلاد الشرق الأوسط وأوروبا وغيرها من البلدان، وقد سمى نفسه بـ “السائح العراقي”، وقد زار الكويت في نهاية مطافه، والتقى به خالد هناك، وسمع منه شيئًا كثيرًا عن رحلاته وتعليقاته على ما شاهده في البلاد التي زارها، ولما أقيم في الكويت احتفال لتكريم يونس بحري ألقى في هذا الاحتفال خالد الفرج قصيدة [بعنوان: السائح العراقي] مطلعها:
سرى يقطع الدنيا ويذرع أرضها | تقـاذفه أمـواجـها وبحـورها |
تزمجره فوق الجبـال ثلـوجها | ويلفحه وسط الصحارى هجيرها |
ومنها: مخاطبا يونس بحري (يصف فيها حال الجزيرة العربية قبل تفجر الزيت من أراضيها):
وعرج على أرض الجزيرة برهـة | هي الأم والابن الكريم يـزورهـا |
لتنظـرَ ثـوب المجـد أصبح مخلِقا | وقد عريت أكتافهـا ونحورهـا |
بلاقع حتى الوحش يأبى ولوجهـا | وميزتهـا إجدابهـا ونفورهـا |
سقاها طريق الهنـد سَمـا مخـدرا | فنامت وهل ذا الصوت إلا شخيره |
ديوان خالد الفرَج، مر ذكره، جـ1/122.
([11])رجال عاصرتهم السيد علي بن السيد باقر العوامي، مجلة الواحة، العدد 10- 11، الربع الثاني والثالث، 1418هـ، 1998م وإعيد نشره في كتابه بالعنوان نفسه، إعداد وتصدير محمد باقر النمر وعدنان العوامي، وتقديم محمد رضا نصر الله، الطبعة الثانية، طبعة خاصة، 1434هـ، 2012هـ، ص: 45.