هل تقرير مؤشر السلام العالمي عادل؟!
كامل الخطي
أصدر معهد الاقتصاديات والسلام Institute for Economics & Peace تقريره السنوي المعنون “مؤشر السلام العالمي ٢٠٢٠” “Global Peace Index 2020” يتضمن التقرير قائمة تصنيف لجميع دول العالم، ويقوم التصنيف على عدد من مؤشرات قياس السلام. تصدرت ايسلندا القائمة باعتبارها الدولة الأكثر سلاما في العالم؛ كما تذيلت أفغانستان القائمة باعتبارها أقل دول العالم سلاما.
يقوم التصنيف على منهجية علمية سأعرض لها في تضاعيف هذا المقال، لكن قبل ذلك، سأُعَرّف بالمعهد بشكل موجز لكي أوفر وقت القارئ الذي ليس لديه فكرة عن المعهد وطبيعة عمله كأحد مراكز الأبحاث العالمية الأكثر تأثيرا.
في سيدني
يقع المقر الرئيسي لمعهد الاقتصاديات والسلام في مدينة سيدني الاسترالية ويرأس مجلس إدارته رجل أعمال استرالي اسمه ستيف كيليليا Steve Killelea، وللمعهد مكاتب في زيمبابوي ونيويورك ومكسيكو سيتي وبروكسل ولاهاي؛ للمعهد أيضاً شراكات استراتيجية مع عدد من مراكز الأبحاث العالمية المرموقة التي يعدّ بعضها ضمن مراكز الأبحاث الأكثر تأثيرا، ويرتبط المعهد ببروتوكولات شراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومنظمة اليونيسيف، ومجموعة البنك الدولي، وحلف الناتو، وغيرها من المنظمات غير الحكومية وشبه الحكومية التي تُعنى بموضوعة السلام.
أوجد معهد الاقتصاديات والسلام عدداً من المؤشرات الرئيسية لفهم وتحليل وقياس القيمة الاقتصادية للسلام والكلفة الاقتصادية للعنف، لكن التقرير السنوي الذي يصدره المعهد منذ عام ٢٠٠٧ تحت عنوان “مؤشر السلام العالمي” “Global Peace Index” المعروف اختصارا ب GPI هو العمل الأهم الذي يقوم به المعهد، بل هو بمثابة درة تاج أنشطة المعهد البحثية المتعلقة بدراسات السلام والعنف وعلاقة ذلك بالاقتصاد.
يلتزم المعهد منهجية قياس مركبة يقوم من خلال تطبيقها بوضع العلامة النهائية لكل دولة من دول العالم، وهذا هو الأساس الذي تصنف استنادا له، دول العالم بداية من الأكثر سلما وأمانا إلى الأقل سلما وأمانا؛ كما أن في القائمة نطاقات تقسم بموجبها دول العالم في مجموعات تبدأ من الأعلى بمجموعة الدول الأكثر سلاما وأمان، وتلك المتوسطة، وكذلك المنخفضة، وأخير المنخفضة كثيرا.
تتكون منهجية القياس التي يعتمدها المعهد لإصدار تقريره السنوي من ٢٤ عنصر:
- عدد الحروب الداخلية والخارجية المشاركة فيها الدول؛
- تقدير أعداد الوفيات الناجمة عن الحروب الخارجية؛
- تقدير أعداد الوفيات الناجمة عن الحروب الداخلية؛
- مستوى الصراعات الداخلية المنظمة؛
- العلاقات مع البلدان المجاورة؛
- مستوى عدم الثقة في المواطنين الآخرين؛
- عدد المشردين كنسبة مئوية من السكان؛
- عدم الاستقرار السياسي؛
- مستوى احترام حقوق الانسان؛
- احتمال وقوع أحداث إرهابية؛
- عدد جرائم القتل؛
- مستوى جرائم العنف؛
- احتمال حدوث مظاهرات عنيفة؛
- عدد نزلاء السجون؛
- أعداد ضباط الشرطة والأمن؛
- الإنفاق العسكري كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي؛
- أعداد منسوبي القوات المسلحة؛
- واردات الأسلحة التقليدية الرئيسية؛
- صادرات الأسلحة التقليدية الرئيسية؛
- عمليات انتشار قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام؛
- عمليات انتشار قوات حفظ السلام غير التابعة للأمم المتحدة؛
- أعداد الأسلحة الثقيلة؛
- سهولة الحصول على الأسلحة الخفيفة والصغيرة؛
- القدرة على التطور العسكري.
حروب..
بعض هذه العناصر تؤخذ بإجمالها مثل عدد الحروب والوفيات الناجمة عن الحروب الداخلية والخارجية، وبعض هذه العناصر تخضع لمقياس نوعي مرتب من ١ إلى ٥ مثل مستوى الصراعات الداخلية المنظمة، والعلاقات مع دول الجوار، وبعض هذه العناصر تؤخذ بنسبتها من عدد السكان مثل عدد المشردين، وجرائم القتل، وأعداد ضباط الأمن، وأعداد منسوبي القوات المسلحة.
هذه المنهجية المركبة مضاف إليها الحفاوة الدولية التي يستقبل بها التقرير سنويا منذ عام ٢٠٠٧، يجعل غالبية متلقو هذا التقرير من غير المختصين، بل حتى بعض المختصين، ينظرون إليه باحترام وتقدير كبيرين وبأنه فوق مستوى الشبهات، لكن عندما نجد أن دولاً مثل المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين الشقيقة تقعان في التقرير ضمن فئة الدول المنخفضة من حيث مستوى السلام جنبا إلى جنب فلسطين ولبنان؛ فمن المنطقي أن يسائل ذو العقل، عدالة وموضوعية التقرير حتى وإن لم تتوفر لدى المتسائل أدوات فك لغز الكيفية التي تعمل بها المنهجية المركبة التي يتخذها المعهد الأساس الذي يبني عليه تقريره السنوي!
مزيد من الأسئلة
لا علم لي مسبق بمن يكون رئيس مجلس إدارة المعهد، لكنني تعرفت على شيء من سيرته الذاتية بعد إطّلاعي على التقرير الأخير الذي وضع المملكة ضمن مجموعة الدول منخفضة السلام، الأمر الذي أنتج أسئلته الواجبة، فليس من المعقول أن تصنف المملكة العربية السعودية التي لا يوجد على ترابها أي نوع من أنواع الصراع الداخلي المنظم؛ كما لا يوجد على ترابها مليشيات مسلحة، وتتسم علاقاتها مع دول الجوار بالمتانة والمصالح المشتركة، فيما عدا علاقتها مع دولة قطر، وعلاقة المملكة بدولة قطر، أمر تشترك فيه وتتساوى مع دولة الإمارات العربية الشقيقة. أما بالنسبة للحروب، فإن التقرير يضع في حسبانه حرب المملكة ضد عصابات الحوثي في اليمن، وفي هذا الأمر أيضا، تشترك المملكة العربية السعودية مع شقيقتها دولة الإمارات العربية، والتقرير يضع دولة الإمارات ودولة قطر ضمن فئة الدول المرتفعة من حيث مستوى السلام! ربما فاتني فهم آلية عمل معايير معهد الاقتصاديات والسلام، إِلَّا أن احتمال سوء فهمي، لا يلغي أحقية ومشروعية مسائلة موضوعية وعدالة التقرير.
جنباً إلى جنب
وجود دولة الإمارات جنبا إلى جنب دولة قطر في فئة الدول مرتفعة مستوى السلام، ووجود السعودية جنبا إلى جنب لبنان وفلسطين في فئة الدول منخفضة السلام، أمر مربك بالنسبة لي، وهذا ما جعلني أخرج من إطار التقرير ومعاييره ومنهجيته، وكل الضوابط العلمية التي يلتزمها معدو التقرير، وأنظر في التموضع السياسي للسيد ستيف كيليليان، على أمل التوصل إلى ما يفسر تصنيف المملكة كدولة منخفضة مستوى السلام.
عَرّفني إطّلاعي على شيء من سيرة السيد كيلليان أنّ السيد كيليليان ينتمي إلى حلقة رؤوساء نادي مدريد، ونادي مدريد Club De Madrid أو Club of Madrid تجمع دولي غير حكومي وغير ربحي تأسس في العاصمة الأسبانية مدريد عام ٢٠٠١، يُعنى بالترويج لقيم الديموقراطية في العالم وفق المفاهيم الليبرالية الكلاسيكية، وقد تأسس هذا التجمع بعيد انتهاء الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، والرئيس كلينتون عضو دائم في نادي مدريد، وهو أحد قادة مبادرة التأسيس. يمتاز نادي مدريد بأن عضويته يحملها عشرات من رؤوساء الدول السابقين، وكذلك رؤوساء حكومات دول سابقين.
نادي مدريد
لن أناقش المزيد حول نادي مدريد؛ فما يهمني من شأن نادي مدريد، الإطار الفكري الناظم لمجموعة حَمَلَة عضويته الذين بينهم ٦٤ رئيس دولة سابق، و ٣٩ رئيس حكومة سابق، وضمن هؤلاء القيادي الإخواني البارز، أمين عام حركة النهضة السابق، رئيس الحكومة التونسية السابق حمادي الجبالي. على الجانب الآخر، لم يحمل عضوية النادي أي سياسي قادم مما يعرف اصطلاحا ب”محور الاعتدال العربي”، أو أي رئيس أمريكي جمهوري سابق، بينما هناك بين الأعضاء الدائمين الرئيس الأمريكي السابق، الديموقراطي بيل كلينتون، كما أن من أعضاء شرف النادي، الرئيس الأمريكي السابق، الديموقراطي جيمي كارتر.
عبر تاريخ العلاقات السعودية-الأمريكية، نلحظ أن مستوى العمل المشترك يرتفع خلال الفترات الرئاسية الجمهورية، ونلحظ انخفاض مستوى العمل المشترك خلال الفترات الرئاسية الديموقراطية؛ كما أن نادي مدريد يشهد غياب ملحوظ لسياسيين أمريكيين جمهورين أو سياسيين عرب ينتمون إلى محور “الاعتدال العربي”، وهذه الحقيقة تدعم أرجحية أن لنادي مدريد إطار فكري، إن لم أقل انه معادٍ للمنظومة الفكرية والثقافية لمحور لاعتدال العربي، وللخط السياسي للحزب الجمهوري الأمريكي، فإنه بلا شك إطار فكري لا يحمل وداً تجاه المملكة العربية السعودية، ونظرا لوجود رئيس مجلس إدارة معهد الاقتصاديات والسلام في حلقة رؤوساء نادي مدريد، فإن هناك أرجحية كبيرة بتأثير توجهات مجموعة نادي مدريد على نتائج تقرير مؤشر السلام العالمي الذي يصدره سنوياً معهد الاقتصاديات والسلام.
تفسير التقرير
من حق الذي يقرأ استنتاجي هذا، أن يطلب مني تفسير تفريق التقرير بين المملكة العربية السعودية وبين الإمارات، فالإمارات إحدى دول محور الاعتدال العربي، وتشترك وتتساوى مع المملكة في مسألة العلاقة مع قطر، كما تشترك مع المملكة في المسألة اليمنية، وكما ذكرت سابقا: هذا أمر مربك. لدي قناعة بأن هذا الإرباك مقصود، فلو وضعت الإمارات في ذات الفئة التي وضعت فيها السعودية، لأصبح الاستهداف ساذج ومكشوف، والتفريق بين الدولتين في التصنيف، يدل على إتقان صانعو التقرير لعملهم؛ فالسعودية هي الدولة الأكبر والأكثر تأثيراً فيما يعرف بمحور الاعتدال العربي، والمملكة هي الدولة لأكثر تأثيرا على المستويين العربي والإسلامي، والمملكة هي الدولة التي تتمتع بمزايا نسبية دائمة تاريخا وجغرافيا وثقافة وديموغرافيا، والثروات الطبيعية التي تتمتع بها المملكة إضافة عظيمة على الميزات النسبية الدائمة التي لم تتغير ولن تتغير؛ فعلى تراب المملكة يوجد الحرمين الشريفين، والحرمين الشريفين قيمة دائمة تاريخا وجغرافيا؛ والمملكة تشغل ٦٧٪ من إجمالي مساحة شبه الجزيرة العربية مبعث الرسالة الإسلامية ومهبط القرآن بلغة أهل الجزيرة العربية، وهذه قيم ثابتة أخرى، كما أن موقع المملكة الجغرافي يشكل الرابط الطبيعي بين مشارق الأرض ومغاربها.
ترويج الديموقراطية
لكل ما ذكر أعلاه، أجد أن مروجي الديموقراطية وفق المفاهيم الليبرالية الكلاسيكية، إذا أرادوا تقويض قيمة ومكانة محور الاعتدال العربي الذي يتسم بالمحافظة، والذي أشاد مفهوم “الحكم الرشيد” بتباين واضح مع المفهوم الغربي لما يسمى في أدبيات العلوم السياسية “Good governance” الذي يقوم على أسس أهمها التداول السلمي للسلطة، فمن الطبيعي أن يعملوا على تقويض قيمة المملكة العربية السعودية، وأن يعملوا كذلك على محاولة عزلها عن فريقها لأسباب أولها التعمية على موضوعية وعدالة مثل هذا التقرير، وثانيها محاولة الاستفراد بالمملكة على أمل إحداث ضرر بالغ التأثير على قيمتها ومكانتها.
ختاما سأجيب على العنوان/ السؤال وأنا ممتلئ قناعة بأن تقرير مؤشر السلام العالمي، غير موضوعي وغير عادل.