[3] بستان السيحة وسَمَر في الذاكرة علي أبو السعود أهدى بنت الشاطيء 14 لؤلؤة من الخليج

عدنان السيد محمد العوامي

 

مقدم اللآلي من هو؟ وما ذا قال عنها؟

أعلمنا السيد علي العوامي (رحمه الله)، في ما تقدم؛ أن حبات اللؤلؤ تلك، قدمها الزعيم الوطني على بن حسن أبو السعود، وهذه الشخصية لها معي حكاية، فقد كان صديقًا للمرحوم والدي، وكان يصطحبني معه من بلدته التوبي إلى القلعة في زياراته المتواصلة إليه، ولأن حظ الوالد (رحمه الله)، من الكتابة والقراءة ضئيل فقد كان يعهد إليَّ بقراءة رسائله إليه، إبَّان وجوده في لبنان للاستشفاء في مصح ظهر الباشق، وكذلك يملي عليَّ أجوبته عليها، وكنت أسمع منه الثناء الجميل، ناهيك عن كثير من النعوت الحميدة يضفيها عليه، فتعلق ذهني الصغير بهذه الشخصية اللافتة، وحين كتب السيد علي العوامي عنه في بابه المعنون: (رجال عاصرتهم) ([1])، اهتبلت فرصة وقوع بعض الهفوات الطفيفة في المقال، فكتبت استدراكًا عليه في المجلة نفسها([2])  عرضت فيه ما هو معروف لدى معاصريه، وهذا نص ما قلته: (إن مما عرف عن المرحوم سعيَه لدى السلطة في إطلاق السجناء من غير المجرمين، أو ذوي السوابق المخلة بالشرف، فكم أعاد البسمة لأسرة بائسة، حُبِس عائلها لشبهة أو كذبة، أو عجزٍ عن الوفاء بدَين للخزينة؛ مثل زكاة ثمار النخيل، فليت أستاذنا أبا كامل أدرج هذه المأثرة في رصيد المرحوم، فأغلب الظن أنه على علم بها…).

علي أبو السعود

وتمضي الأيام والسنون، فتشاء إرادة الله أن أتشرف بخدمة بلدي الحبيب من خلال إبراز هذا الزعيم ففاجأني نجله الكريم حسن بأن ألقى إليَّ بما تركه أبوه من إرث أدبي وثقافي واجتماعي، فتمكنت بعون من الله وتوفيقه أن أعده للطبع كاملا، فصدر منه للآن (زعيم في ذاكرة الوطن)، رواية (شيخة)، (من أعمال أبي السعود الأدبية)، وبقي كتابان جاهزان للنشر، هما (أوراق من دفتر النسيان)، و(علي أبو السعود، مراسلاته وثائقه)، فعسى أن تكون هذه المناسبة حافزًا  لتنشيط الجهد في السعي لطباعتهما.

هذا هو مقدم اللآلئ، ولكن قبل أن أقدِّم كلمته في ذلك السمر، يحسن أن أتم ما قلتُه في استدراكي آنف الذكر على السيد علي، ففيه: (… ما أود تأكيده هنا أن تسجيل هذه المأثرة في رصيد وجيه وطنيٍّ ما لا يعني غمط غيره من الوجهاء حقَّهم ممن كان له حظ من مثل تلك المساعي؛ إذ لا يعدو الغرض إعطاء ناشئتنا – ولاسيما أولئك المغالين منهم في ازدراء الماضي- صورة لما كان يؤدِّيه أولئك الوجهاء من خدمات لمواطنيهم، سواء بالتضحية بأموالهم، أو بجهودهم وأوقاتهم، مستفيدين من علاقاتهم بالمسؤولين وأهل الحل والعقد، وثقة أولئك المسؤولين في نزاهتهم، ونصحهم.

  والذي يبدو أن منشأ استهجان الماضي عند مستهجنيه ينتسب إلى ذات المنشأ عند المغالين في تمجيده وتقديسه، ألا وهو النظرة من زاوية واحدة مقفلة لدى كلا الفريقين، ففي حين يَحصر أحد الفرقين الفضائل كلها في الماضي ورجاله، ولا يرى في الحاضر أيَّ خير، يأتي الفريق الآخر بكل الشواهد والبراهين مدلِّلًا على بؤس الماضي وتعاسته، ورفاه الحاضر ونعيمه. أما الإنصاف فيقتضي من كليهما الاعتراف بأن لكل عصرٍ حسناتِه وسيِّئاتِه، ولكل زمن سلبياته وإيجابياته، فلا يوجد خيرٌ مطلق، ولا شرٌّ مطلق، إنْ في الماضي أو الحاضر، وبحث التاريخ ودراسته لم يكن أبدًا بقصد ندبه والتباكي عليه، وإنما هو علم له أصوله، ومناهجه، والأمم المتحضرة بقدر ما تهتم بالحاضر، لا تنسى الماضي، بل تتخذ من المزاوجة بين تراث السلف وحركة الحاضر صُوىً تستجلي بها مشارف المستقبل.

ولا أظن أحدًا يماري في أن منجزات الحضارة المعاصرة هي حصيلة تراكم هائل من المعارف والجهود الإنسانية منذ وطَّأ الله سبحانه ظهر هذا الكوكب لبني البشر، فالمنجزات التي نشهدها اليوم ليست وليدَة لحظتها، وإنما هي نتاج تطور وتدرُّج لبدايات صغيرة سبقتها؟

أعود فأذكِّر بأن الغرضَ من بحث الماضي هو الاستلهام، والاستفادة، وليس التباكي أو التمجيد، فنحن حين نعرض لسيرة رجلٍ ما مشيدين بمآثره، لا نرمي إلى تقديسه قطعيًّا، ولكننا نقصد استلهام سلوكه الخيِّرِ كي نتمثَّلَه ونقتديَ به، لما في ذلك من ترويج وإشاعة للسلوك الخيِّر في المجتمع)، فلنقف هبيهة مع مقدم اللالئ يلقي كلمته:    

هدية ابن الخليج لابنة الشاطئ([3])

أيها السادة.

لي الشرف أن أحيِّيَكم، وإنما أحيي العلمَ والأدب والثقافة الروحية المتجسِّمة في أشخاصكم، وإنها لمِن أسعد ساعات العمر وأمتعها؛ أن أتشرَّف بالحديث لرسُل العلم ورمز الوَحدة. ويسرُّني – أيها السادة – أن أعرب لحضراتكم عمَّا يكنُّه أبناء الخليج العربي – وبالأخص هذا البلد – لأبناء الكِنانة من التقدير والإعجاب، وما هم معلِّقون عليهم من آمال، الشيء الذي سمح لي أن أقول إننا نتلقَّى الثقافة المصرية كما تتلقى الأطفال الكلمات الأولى من أمهاتهم، فلي أن أفخر بمصرَ كما تفخر بها أبناؤها.

أيها السادة.

 لقد اجتزتم عبر البحار، وامتطيتم متن الهواء، وقطعتم ألوف الأميال، وتكبَّدتم مشاقَّ السفر والترحُّل؛ لا لتكسبوا مالًا، ولا لتضيفوا لأمجادكم مجدًا، وإنما لتتحدثوا وتتعرفوا لإخوانكم أبناء يعرب، الذين تجمعهم – وإياكم – جوامعُ عريقةٌ، خالدةٌ من الدم واللغة والعقيدة، وبعض هذه الجوامع كافيةٌ لأن تبعث في نفوسكم النبيلة هذه الروح الطيبة، وأكرم بها غايةً.

لم يكن – أيها السادة – في الحسبان، ولا من المنتظر أن تُهيَّأ لنا الظروف لنلتقي بخيرةٍ من رجال العلم وأنصاره من أبناء الكِنانة. وهل يخطر في ذهن (ابن الخليج) أن يتفوَّه أمام أبناء النيل؟ وهل من المحتمل أن يتحدَّث ابنُ الخليج إلى >ابنة الشاطئ<؟ كلَّا، اللهم إلا أن تكون أقصوصة شاعر خلقها الخيال المبدع، ولكن لحسن الحظ أنَّ كثيرًا من الخيال أصبح أمرًا واقعًا. نعم – أيها السادة – لقد أصبح أمرًا واقعًا، فها هو ذا ابن الخليج واقف يتحدَّث، بخشوعٍ، أمام أبناء النيل، وها هو ذا ابن الخليج واقف بتواضع ملؤه التقدير أمام ابنةِ الشاطئ.

أيها السادة.

إنني لست شاعرًا، ولا كاتبًا، ولا خطيبًا، ولكنكم فرضتموني فرضًا، وخلقتموني خلقًا، فحاولت أن أكون شاعرًا بلا أوزان، وكاتبًا بلا صنعة، وخطيبًا بغير منطق، حاولت ذلك فأعياني، فاستوحيت الخليج فأوحى إليَّ، فلعلها إشراقة مما أوحيتموه إليه، كما أوحى إلي أن أقدم لكم هذا >الرمز<؛ لأني أخجلُ أن أقول لكم >هدية<.

إن هذا الرمزَ هو >أربع عشرة حبَّة صغيرة من اللؤلؤ، هي من نتاج الخليج، لا تساوي شيئًا، ولكنها ترمز لما في جوف الخليج من لآلئ تفتقر لأيدي مهرة صَنَاع لاستخراجها. ولقد وضعت هذه الحبَّات الصغيرة في عُلبة من الصدف، محاطة بإطار من الفِضَّة، رمزًا لعدم استكمال نضج الحبات، فهي باقية في أصدافها، وجعلت مع الحبات قطعة نقدٍ ذهبية ضُرِبت في هذا البلد منذ بضع مئات من السنين، جعلته رمزًا لما تلقَّيناه من أسلافنا من ذخائرِ الإيمان النقي، الذي كلما تقادم عهده ازددنا تمسُّكًا به، وحرصًا عليه، كما يحرص هواة الآثار على مثل هذه القطعة. أما مجموع هذه العلبة، وما احتوتها فهي ترمز لصفاء قلوب أبناء الخليج، وما انطوت عليه صدورُهم من حُبِّ الخير للإنسانية جمعاء، وما انطوت عليه جوانحهم من نقاء عقيدة الفطرة وصفائها.

بقي – أيها السادة – أمر واحد، هو أن تتفضَّل الدكتورةُ ابنةُ الشاطئ باستلام هذه الهدية الصغيرة التي إن دلَّت على شيء فإنما تدلُّ على محاولتي وتشبُّثي بكلِّ وسيلة؛ للإعراب عما يكنُّه لكم قلبي وقلب كل عربي في هذا البلد من تقدير وإخلاص ووَلاء، وهذا هو – على حد تعبير القائل: “جهد المُقِلِّ”، وما عسى أن يستطيع مثلي أن يعرب لأمثالكم؟ على أنَّ سعادة الدكتور الخولي طمأنني بكلمته الارتجالية الجزلة بقوله: >إن في السكوت، أحيانًا، لبلاغةً لا تقلُّ عن فصاحة الخطيب البليغ. هذا، ولصحة المناسبة الرمزية (هدية الخليج للكنانة) هي أن تكون من ابن الخليج لابنة الشاطئ. وختامًا أهتف بحياة الأمة العربية والعاهلَين العظيمين([4]).

بنت الشاطيء في أواخر حياتها

————–

([1])مجلة الواحة، العدد: 8، شوال، 1417هـ، مارس 1997م، وأعيد نشره في كتاب: رجال عاصرتهم، ص: 21.

([2])العدد 13، الربع الأول، 1419هـ 1998م، ص: 122-127، بعنوان: (تعقيب على مقالة السيد علي العوامي عن علي بن حسن أبو السعود)،: وأعيد نشره في كتاب: (زعيم في ذاكرة الوطن)، ص: 123.

([3])أوراق من دفتر النسيان، علي بن حسن أبو السعود، إعداد ومراجعة عدنان السيد محمد العوامي، معد للنشر، ص: 47.

([4])يريد: الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، والملك فاروق ملك مصر.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×