دورة الحنان في الطبيعة
رباب إسماعيل |
كان لحنانِ أمي في المواسمِ، نكهةٌ مُختلفةٌ. كما كان والدي شريكها بجدارةٍ في كرنفالِ الأرضِ حين تجود.
لم يكن يوسف والدي، فلاحًا رغم أنّه كان كثيرًا ومتعددًا حسب ما أبانتهُ لي حكايا كان فيها بطلَ مهنٍ طويلةٍ.
زرعَ والدي بيتنا الواسع. وكان لي من جزيل عطاياه أن أقطفَ معه: ” توتًا، ليمونًا، طماطمًا، شمّامًا، حبقًا، رطبًا، ودوّار شمسٍ…. ” إضافة لما زرعناه ولم نحصده.
حين قال لي مرةً أن اسم أرض بيتنا “البستانيّة”، ظننتُ في البداية، أن ذلك ممّا جاد به قلبهُ على لسانه،ِ فأسماها البستانيّة كما سمّى أمي ” أم الورد “. لكنّ البستانيّة أسمٌ موثّقٌ في الصّك والعقود.
كان الحنان يدورُ دورتهُ في الطبيعة: والدي يزرع، البستانيّة تجود، أمي توظّب وتُصنّف، وتمنح بركة الموسم لكل من تذكُرهُ، وينساها.
حبّةً حبّةً نقطفُ التوتَ، لتُهدى سلالًا سلالًا. لم تكن أمي تنتظرُ امتنانًا ولا شكورًا. كان امتنانها للأرض وفرحتها بذلك، يُخدّر آلام الروماتيزم في مفاصلها. رغم انتقامهُ منها بعد انتهاء الموسم، ونسيان معظم من كانوا للذي كان.
للبحر أيضًا فضلهُ وجودهُ. أطنان من الربيان “القريدس”، السمك الذي كان يصل للبيت وروحه مازالت ترقص فيه.
كُلّ ذلك لا يرسمُ ذاكرةً للطعم والمذاق، قدر ما يرسم ذاكرةً للحنان والمكان. للحلقات التي كان من استطاع منّا أن يتحَلَّقها حول أمي، و “سحلاتها” أن يُعين ويُعان. ذلك درسٌ تعلّمهُ الصغار وهم يعصرون الليمونَ الأخضرَ، يُقشرون الثمرَ. حتى إذا ما انتبهوا، عرفوا أنّ الوقت قشّرَ أعمارهم باكرًا، لينمو لحاء الحنين. فكيف لهم بعد أن يعصروا منه الفرح..؟
كراتُ الرمّانِ الكثيرةِ، التي كانت تفرطها أمي، وتُبَرِّدها حِصصًا حِصصًا. تدحرجت على روزنامتينا المختلفتين، أخذت حصّتها مني ساخنةً، على امتداد المسافة الشاسعة بيني وبينها، حتى انفطر قلبي بالسؤال :
أمي التي تفرطُ وقتها الآن وحيدةً، من يجمع لها كلَّ ما نثرته السنين؟!
أسئلةٌ كثيرة،ٌ أصواتٌ تُنادي صورًا نديّةً، لكنها تصرخ جميعًا بالحنين كلما غارت بعيدًا كعيونٍ كانت يومًا للقطيف.