تجارة الوقت

إبراهيم الزين

 

 نافس التقاعد المبكر التقاعد الإعتيادي ، على اختلاف الأعمار والجهات العملية ، وتتعدد الأسباب التي تؤدي للتقاعد المبكر ، فمنها ما هو واقعي ويصب في مصلحة الموظف المالية والبدنية ، ومنها ما هو متسرع وغير حكيم ، ومنها ما يحاكي الآخرين فقط ، دون تخطيط وتفكير وتدبير وواقعية .

والحقيقة أن هناك حالات كثيرة قد تضطر بأصحابها لاتخاذ القرار بغض النظر عن العوائد المادية المجزية والحوافز الأخرى المغرية والتي تشجع على اتخاذ الخطوة دون تفكير في نمط الحياة التي سيعيشها الموظف بعد التقاعد ، إذا تجاوزنا موضوع المادة بذاتها .

ما نظنه وأنا أحد الموظفين الذين تقاعدوا مبكراً ، هو أن العمل بحد ذاته حياة ، وأن الحياة دون وظيفة أو عمل آخر ما هو إلا جلوس على قارعة الإنتظار القاتل للحظة المصير المحتوم ، وهو أمر محزن ، لأن الشواهد كثيرة على أن المصير المذكور لابد أن يكون حتمياً بعد أن تمر على الفرد سلسلة من الإحباطات والأوضاع النفسية المعقدة ، ثم الأمراض الجسدية والخذلان المجتمعي والعائلي ربما ، والذي يؤدي للوحدة ، وبالتالي للنفي خارج دولة الحياة .

نحن نريد أن نتجاوز كل ذلك ، لندخل في واقع التقاعد نفسه ولمختلف الأعمار ، سواء في عمر ما قبل الستين أو ما بعده ، فنقول أن على الإنسان أن يفكر في مصيره ملياً إذا لم يكن فعل ذلك قبل اتخاذ القرار ، وهو يترك الوظيفة ، ليعيش مرحلة جديدة من حياته تماماً كما كانت المراحل الأخرى سواء الطفولة أم الصبا أم الشباب أم ما بعدها من رجولة وحياة عملية ثم في نهاية المطاف فترة التقاعد والتي يجب أن تكون في مستوى السنين الماضية من العمر ، مع اختلاف الوسائل والمرغبات والتنوعات ، لأن الوقت هنا على قصره لحياة أخرى ، فإنه بطيء جداً على ذلك الذي لا يملك بين يديه ما يفعله سوى انتظار قطار الرحيل ، واضعاً يده على خدِّ الأفول ، وهو أمر اعتاد عليه الكثير ، وإن تبدل حالياً ، باشغال الكثير لأنفسهم بأمور تبعدهم عن الوحدة والكآبة ، والفراغ إلى ما يشغلهم ويلهيهم ، وإن كان دون فوائد حقيقية ، وكأنهم في إجازة وسوف يعودون إلى أعمالهم .

ما نريد قوله هو أن أغلب ما يشغل به المتقاعدون أنفسهم إذا استثنينا القلة ، هي أمور لا يمكن لإنسان يملك طموحاً في أن يعيش حياة كريمة مختلفة أن يفعلل مثل ما يفعل الكثير من إضاعة الوقت والإتجار به مع الوهم ، لتدفع قيمته الثمينة في مقابل الجلوس في المقاهي والمطاعم ، أو المزارع ، ولا شغل سوى الأكل والشرب والتسلية الموهومة ، وما هو أدهى من ذلك وأمر من أمور مؤداها التهلكة والخسران .

نحن لا نستخف أو ننتقد ذلك بالقدر الذي نريد أن نطرح بدائل نافعة ، يأخذوها ويدرسونها ، أو أن يفكروا فيما يمكن إيجاده ليستفيدوا ويستفيد منه من يأتي بعدهم من المتقاعدين . فلو فكروا مثلاً بإنشاء نوادي للمتقاعدين ، لتكون لهم الأماكن المثلى لقضاء الوقت ، وممارسة هواياتهم ، أو بعض ما يفضلوه من فعاليات ، أو ما يتوفر في هذه الأندية من الأنشطة التي تعود على النفس والبدن بالراحة والصحة والعافية ، وبالمصادفة وصلني استبيان من بعض الأعزاء يحمل نفس الفكرة المطروحة هنا ، وشتان بين هذا وبين أن تتخم الأبدان بالسمنة والأمراض والغفلة والتقاعس ، بسبب مجاملة الآخرين ومحاكاتهم في الممارسات الغير مناسبة للعمر التقاعدي ، وبالتالي إصابة الجسم بالأمراض التي لا ينفع معها طبٌ ولا دواء .

ولماذ لا نفكر في هواياتنا التي أهملناها مع زحمة الحياة العملية ، فالغالبية منا له ملكات وهوايات ، ولكنه لا يمارسها بالطريقة التي يبدع فيها، فحان الوقت لأن يتفرغ لها ، وهي في غالبها ذات مردود شخصي وفي بعضها مادي ، لو أن الإنسان أراد المتاجرة والربح . لهذا نقول أن وجود الملكة فرصة جميلة لمن يملكها بأن يمارسها ويطورها سواء أثناء الحياة العملية أو بعدها ، وهي بحد ذاتها عمل آخر ، كأن يكون المرء في الأساس ذا ميول أديبة أو ثقافية أو رياضية أو حرفية أو تقنية ، أو أن يكون ناشطاً إجتماعياً ، أو صاحب ميول تجارية حيث يمكنه التجارة في الكسب الحلال .

وأيننا قبل كل ذلك من التجارة مع الله عزّ وجلّ ، بدل تجارة الوقت الفارغة التي لا مؤدى لها سوى الوهم ، فإنه لا أربح ولا أجدى ولا أنفع من أن نتاجر مع الله سبحانه ، فلا يكفي ونحن في مرحلة عمرية حرجة بأن نؤدي الواجبات التي فرضها عز وجل ، ونغفل عما فتحه علينا من أبواب للأعمال الصالحة والتي يمكننا الولوج من خلالها لكسب الحسنات ومحو السيئات التي تثقل كاهلنا ، وهي فرصة لتصفية الحساب وترجيح كفة الأعمال المقبولة ومضاعفتها لديه سبحانه وتعالى ، ولا يكون ذلك سوى بالإنقطاع له والإرتقاء للقرب والدنو منه جلّ ربي وعلا.

وأخيراً على الفئة العمرية التي تقاعدت مبكراً ، أن لا تستكين للتقاعس والتكاسل ، والنوم على ( حُزَمِ ) الأحلام الوردية دون أن يسعى أصحابها للعمل على إشغال وإشعال وقت فراغهم بفرص عملية أخرى ، لتشكل نقلة مختلفة لمرحلة ملفتة من حياتهم ربما يحققون فيها التطلعات التي لم تتحقق أثناء الوظيفة ، والتي خرجوا منها طائعين أو مكرهين .

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×