العوامي مُتتبعاً عالم الآثار الأمريكي “زارينس”: وين أذونك يا بلال..؟! لا علاقة لبلدية القطيف بإنشاء الجسر.. بل هيئة المشاريع العمرانية بالدمام
أخطاء الباحث “فاحشة” لكنها تحولت إلى تاريخ واعتُمدت في أطروحة “ماجستير”
يُناقش الشاعر والباحث عدنان السيد محمد العوامي، في هذه المقالة، ما يراه “أخطاء فاحشة” في توثيق عالم الآثار الأمريكي يوريس زارينز ـ أو زارينس ـ الذي نشر بحثاً عام 1977 عن آثار جزيرة تاروت. وتمثل المقالة تمهيداً لقصة لاحقة تنشرها “صُبرة” ويسرد فيها الأستاذ العوامي تفصيلات إنشاء جسر الجزيرة، برفقة المصور عبدالمجيد الجامد. |
تاريخنا التائه.. بين زهد الأجداد وشغف الأحفاد
عدنان السيد محمد العوامي |
تردُ عليَّ – بين الحين والحين – معلوماتٌ عن القطيف وتاريخها وتراثها، وبكل أسف فإن السمة المشتركة لتلك المعلومات هي الارتجال، والتسرع، وعدم التثبت، وتحرِّي الدقة، وهي – وإن كانت تَنُمُّ عن حبِّ كاتبيها لبلدهم، وهو أمر يحمد لهم، واستجابة للفطرة البشرية، لكن بشرط ألا يكون حبًّا شوفينيًّا (يعمي ويصم) كما يقال في المثل.
أحد الأحبة الشباب المهتمين بعث يسأل عن تاريخ إنشاء جسر تاروت، فأجبته بما أتذكره عن هذا الجسر، وبعد برهة تلقيت منه رسالة برفقتها صورة صفحة قال إنها وثيقة تثبت أن الجسر بُدئ في إنشائه سنة 1962م.
تأمَّلت الصورةَ التي حسِبها وثيقةً فإذا هي صورةٌ لصفحة من دراسة منشورة بالعدد الثاني من مجلة (أطلال) عن أواني الحجر الصابوني المكتشفة في جزيرة تاروت لباحث آثاري (Archeologist) اسمه يوريس زارينز، زار جزيرة تاروت سنة 1972م.
لفتني ما احتوته الدراسة من أخطاء فاحشة وقع فيها معدُّها، وغني عن البيان أن الرجلَ أجنبي، لا علم له بالمنطقة، ولم يشهد عملية إنشاء الجسر، ولا لحظة العثور على الأدوات، ويقينًا إنه استقى معلوماته من بعض من لقيهم أثناء زيارته لتاروت، فهم وحدهم تناط بهم جريرة ما أوقعوه فيه من الأخطاء، فهي، وإن لم تكن متعمدة، لكنها دخلت التاريخ، وصارت مرجعًا معتمدًا لما تلاها من أبحاث ودراسات، فلعل من المفيد أن أنقل ما أورده بنصه:
“… ويجب التنويه – منذ البداية – عن أن المصدر الرئيسي للمواد الحجرية تحت الدراسة هنا هو جزيرة تاروت الموجودة في الخليج إلى الشرق من مدينة القطيف مباشرة لوحة 17(لمناقشة موقع وتاريخ الجزيرة انظر Bibby 1973ص: 28 – 37، وصبحي رشيد Rashid 1972 ص: 159 – 160، ود. عبد الله المصري Masry 1974من ص: 78 – 80. )، ويرجع تاريخ اكتشاف تلك المواد والمواقع التي تم العثور عليها فيها إلى سنة 1962م؛ ففي ذلك الوقت أرادت بلدية القطيف أن تشيِّد طريقًا لربط تاروت بالساحل الرئيسي، وكان العملُ يتطلَّب كميةً كبيرة من الرمال، فتحولت معدات نقل الأتربة إلى مناطق معينة في تاروت؛ نظرًا لتوافر تلك الرمال بها، وأثناء إزالة الرمال بمنطقة الرُّفَيْعة على وجه التحديد (انظر اللوحة رقم63 أ ) تم الكشف عن مقابر بها صناديق وأدوات من صنع يد الإنسان شملت الأواني من الحجر الصابوني (انظر جولدنج Golding 1974من ص: 25 – 26، وبيبي Bibby 1965 ص: 1509)، كما وجدت أيضًا موادَّ أخرى منتشرة فوق الرمال، ونظرًا لعدم وجود إدارة للآثار أنذاك (تأسست إدارة الآثار والمتاحف عام 1964) فقد حصل على هذه الأدوات أفراد من القطيف والظهران، وكان سكان منطقة الرفيعة يعملون على توسيع بساتينهم منذ سنة 1962، ونتيجة لذلك أزيلت محتويات هذه المقابر التي شملت تحفًا صغيرةً بجانب الفخار والمعدن والمرمر والأواني من الحجر الصابوني”(1).
جميع ما أورده الباحث في هذه الدراسة من معلومات خاطئة جملة وتفصيلاً، فلا مقابر ولا صناديق، وحتى لو تسامحنا فقبلنا تسمية المدافن مقابرَ، فلن نتسامح في الصناديق، فهذه لا مجال للتسليم بوجودها على الإطلاق، ومع ذلك فقد أخذت طريقها نحو الأكاديمية، فاعتمد عليها الأستاذ علي بن إبراهيم الحمَّاد في رسالته لنيل درجة الماجستير(2)، وربما غيره، ومن هنا تأتي خطورة ما يقع في مثل هذه التدوينات من أخطاء.
أخطاء الدراسة
أولاً– المعروف أنَّ أغلب أراضي جزيرة تاروت زراعية، تحيط بها السباخ في الجنوب والشمال والغرب، ولا توجد فيها رمال بتاتًا، وحتى لو فرضنا وجود الرمال، فكيف تم نقل المعدات والتجهيزات إليها قبل مد الجسر؟ هل بالسفن؟ أم بمد جسر مؤقت؟ ثم لماذا يتكلَّفون مشقة نقل المعدات إلى تاروت على طريقة (وين أذونك يا بلال؟)، أوليس الأسهل والأفضل أن يُبدأ بالعمل في الجسر من القطيف حيث تتوافر الكثبان الضخمة؟
ثانيًا – قوله: إن بلدية القطيف هي التي شيدت الجسر، فهذه كسابقتها لا صحة لها، فالبلدية لا علاقة لها بمثل هذه الأعمال، وإنما شيدته هيئة المشاريع العمرانية بالدمام التي كان يرئسها الشيخ عبد العزيز الحصان صاحب (مدارس الحصان)(3).
ثالثًا – قوله إن “المنقطة التي عثر فيها على تلك الأدوات هي الرفيعة بالتحديد”.
هذه أيضًا لا صحة لها، وإنما عُثِر عليها في منطقة جنوب الربيعية، بالقرب من مستشفى الربيعية، إلى الشرق من مسجد الخضر، أما الرفيعة فهي على ساحل البحر إلى الشمال من بلدة دارين والجنوب من بلدة سنابس، وهي المكان الذي أقيم فيه أوّلُ مطار في المنطقة الشرقية قبل أن ينقل إلى الظهران.
الرابعة ـ إذا كانت تلك الأدوات قد استولى عليها أفراد من القطيف والظهران، فكيف حصلت عليها إدارة المتاحف؟
الخامسة ـ “إن سكان منطقة الرفيعة كانوا يعملون على توسيع بساتينهم منذ سنة 1962، ونتيجة لذلك أزيلت محتويات هذه المقابر التي شملت تحفًا صغيرة بجانب الفخار والمعدن والمرمر والأواني من الحجر الصابوني”. حقيقة لم أر أعجب من هذا. كيف – بربك – تمكن الباحث الفاضل من معرفة تلك المحتويات فحدد أنواعها وأحجامها وموادها وعناصرها وهي قد أزيلت وأتلفت؟
قبل أن ألج في بيان ما توصلت إليه بهذا الشأن بحكم أني معاصرٌ لهذا الجسر، وعملت في جهات ثلاث قريبة الصلة به بوجه من الوجوه، وهي: دائرة مستودع المالية، ودائرة خفر السواحل، والبلدية التي زُعِم أنها (شيدت الجسر)، وشاهدت تلك الآثار إبَّان وجودها في البلدية، قبل أن تسلمها لإدارة المتحف، أود التنويه إلى أنني لم أشأ أن اعتمد على ذاكرتي السقيمة وحدها، والذاكرة متهمة بالخيانة، كما لا يخفى، بل لم أكتف بالمعلومات التي تفضل بتزويدي بها رئيس بلدية تاروت آنذاك؛ الأستاذ محمد حسن ابن الشيخ عبد الله المعتوق، أطال الله عمره، وهو نفسه من اكتشف عمال البلدية تلك الآثار بحضوره أثناء قيامهم بالحفر ونقل الأتربة لردم الحفر في الطرقات، وليس لتشييد الجسر كما تزعم الدراسة، وإنما لجأت إلى النبش في أدبيات تلك الحقبة من الزمن، حتى عثرت على بعض الخيوط التي تقربنا من الحقيقة.
—————
(1) القسم الثالث: (دراسات عن أنواع الفخار في آثار المملكة العربية السعودية – الحجر الصابوني – قائمة الأواني المصنوعة من الحجر الصابوني بمتحف الآثار والتراث الشعبي بالرياض، يوريس زارينز، حولية الآثار العربية السعودية (أطلال)، العدد الثاني، عام 1398هـ/1978م، الطبعة الثانية: 1418هـ 1998م)، ص: 75 – 76.
(2) أواني الحجر الصابوني من جزيرة تاروت 3000 – 500 ق. م، رسالة ماجستير عام 1429هـ، 2009م، إصدرات الهيئة العامة للسياحة والآثار، مشروع الملك عبد الله للعناية بالتراث الحضاري، سلسلة دراسات أثرية محكَّمة (رقم 12)، الرياض، 1435هـ 2014، ص: 17 وما بعدها.
(3) هيئة حكومية، خاصة، رئسها الشيخ عبد العزيز الحصان. انظر الأخبار المحلية، جريدة أخبار الظهران ع: 8، 30/9/1374هـ، و (عبد العزيز الحصان رائد التعليم الأهلي في الشرقية)، جريدة اليوم، ع: 15189، 24 ربيع الأول 1436 هـ الموافق 15 يناير 2015.
——–
أطلال |
مجلة حوليّة متخصصة تصدر مرة كل عام، عن الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني. تعتني بالنشر العلمي للأبحاث والتقارير المتعلقة بالأعمال الميدانية الأثرية وأعمال المسوحات والتنقيبات والتوثيق والترميم للمعالم الأثرية في مناطق المملكة.
صدر العدد الأول منها عام 1397 الموافق لـ 1977م، عن الوكالة المساعدة للآثار والمتاحف بوزارة المعارف، حين كانت المكتبات والآثار تابعة للوزارة. ثم انتقلت الآثار إلى هيئة السياحة.
والموضوع الذي يُناقشه الأستاذ العوامي هنا منشور في العدد الثاني من الحولية.
من هو يوريس زارينز.. أو زارينس..؟ |
عالم آثار أمريكي، ولُد في ألمانيا عام 1945م، شغل منصب أستاذ الآثار والتاريخ في جامعة ميسوري، وهو متخصص في آثار الشرق الأوسط. وقد أثار جدلاً قوياً ببحث آثاري حدد فيه الموقع الجغرافي لـ “جنة عدن” المذكورة في القرآن الكريم. وقال إنه يمتدّ من شطّ العرب حتى حدود الساحل المقابل للبحرين.