قصة نخيل القطيف في أغنية لفهد بلان قبل 51 سنة كتبها مسلم البرازي ولحنها محمد محسن ووصف سيهات ودارين وصفوى
أغنية عن الشرقية ضمن مشروع وطني نفذته الإذاعة السعودية
كتب: حبيب محمود
“ومن سيهات حتى راْس تنّورهْ.. تشوف الخيرْ، صورهْ تغار من صورَهْ”..
هكذا وجد الشاعر السوري مسلم البرازي واحة القطيف في ستينيات القرن الماضي، حين زارها مُوفداً من وزارة الإعلام. كان في مهمّة عمل لصالح الإذاعة السعودية. المهمة هي كتابة كلمات أغانٍ عن المعالم السعودية. وكانت زيارته لواحة القطيف جزءاً من جولة في المنطقة الشرقية الناهضة في ذلك الوقت.
كتب البرازي كلمات الأغنية، ولحنها محمد محسن، وغنّاها المطرب السوري الشهير فهد بلاّن، وأُذيعت الأغنية مراراً. وبعد أكثر من نصف قرن؛ تحوّلت الأغنية إلى وثيقة تاريخية توثّق منتصف الستينيات في المنطقة الشرقية، والقطيف جزءٌ مهمّ من الوطن، ومن المنطقة الشرقية، ومن الأغنية الشفيفة.
وقبل أكثر من عامين؛ أعددتُ قصة موسعة عن الأغنية، في صحيفة “الشرق” التي أشغل فيها منصب “مدير تحرير”. وتُعيد “صُبرة” نشر القصة الموسعة.
سياحة فنّية تصور الشرقية ونخيلها وشواطئها
بإيجاز شديد؛ هي أيقونة حنينٍ شفّافة خبّأ فيها فهد بلاّن حواضر الجمال في المنطقة الشرقية، في عقد السّتِّينيات. الدمام، الظهران، الخبر، سيهات، راس تنورة، القطيف، دارين، صفوى، الهفوف، القارة. وكأنّ الأغنية متحفَ فرحٍ أراد كاتبها وملحّنها ومؤدّيها توليف معجم للمنطقة على طريقة شفّافة.
وعلى الرغم من كلّ هذا الزمن الطويل، في عمر الحواضر التي غيّرتها التنمية كثيراً، بقيت المنطقة الشرقية طريّةً في صوت المطرب العربي الموصوف ـ في زمانه ـ بـ “الكبير”.. بقيت الشرقية طريّة في الأغنية بنخيلها وينابيعها وتمدُّن ذلك العقد الناهض، من الدمام الناشئة في ذلك العقد، حتى آخر واحات الأحساء الخضراء..!
وفي 12 دقيقةٍ تجوَّل فهد بلاّن بالناس عبر أغاني المذياع في المنطقة الشرقية، لتتحوّل الأغنية إلى ما يُشبه شاهداً أثرياً في الإعلام السياحيّ الذي استخدم الفنّ للترويج لهذا الجزء الشرقيّ من بلادنا الكبيرة.
لَكْنةٌ أخرى
منذ مطلع الأغنية؛ يظهر أن كاتب كلماتها ليس من أهل الشرقية، على الأقل في مرحلة كتابة النص. أهل الشرقية لا يقولون “هيّا” بل “يالله”، ولا يقولون “مَوْيَهْ” بل “مايْ” أو “مـاْ”، ولا يقولون “هِيّهْ” بل “هِيّ” و “هِيْهْ”، ولا يقولون “شْفافي” بل “شفاتي”، ولا يقولون “الحِلْو” بل “الحلاوَه”، ولا يقولون “ياما”.. وكلّ هذه الكلمات وردت في الأغنية لنفهم أن جوّ نصّها الشعري البسيط هو جوّ شاعرٍ قادم من خارج المنطقة ليصوِّرها بما لديه من معجم لغويّ، ليُنجز مهمة تعريف جميل بالأرض، صورة وطبيعة، وتكون الأغنية بمثابة إعلام سياحيّ في مرحلة مبكّرة جداً.
حِزمة فنّية
تقع الأغنية التي لا يعرفها الجيل الجديد ضمن حزمة فنّيةٍ أنتجتها إذاعة الرياض عام 1966م، وأشرف عليها وزير الإعلام، وقتها، جميل الحجيلان شخصياً الذي كلّف الشاعر الغنائي السوريّ مسلم البرازي إعداد كلمات سلسلة من الأغاني عن البلاد السعودية، كلُّ منطقة على حدة، ليؤدّيها مُطربون معروفون، عبر إذاعة الرياض. تسلّم الشاعر القادم من حماة التكليف، وخرج في جولاتٍ ميدانية ليُشاهد المناطق بعينيه ويعيش طبيعتها وأجواءها، ومن ثم يستلهم كلمات الأغاني.
ويتذكّر الدكتور زهير الأيوبي القصة بقوله “جال الشاعر الغنائي الكبير في كل أرجاء المملكة، في سهولها الخضراء، وصحاراها وقفارها التي تزخر بالشمس، وفي شواطئها الحافلة بالخير، وفي جبالها التي تعج بالبرد والبرودة، والخضرة والفاكهة، وآلاء الله الأخرى التي لا تعد ولا تحصى، وتَغَنّى بتلك السهول، وأشاد بتلك الصحارى، واعتزّ بتلك الجبال، وصوّر أحاسيس الناس المرهفة، وركزّ على عاداتهم العربية الأصيلة، وفاخر بأنه واحد منهم وانهم منه”.
الدكتور الأيوبي هو من المشاركين في تأسيس إذاعة الرياض التي انطلقت في رمضان 1384هـ، وشغل منصب “مدير” ردحاً من الزمان، ومن زملاء الشاعر، وروايته هي رواية الشاهد على التفاصيل.. وقد نشر الشهادة في مقالات منشورة. يقول “كتب البرازي في ذلك أكثر من مائة قصيدة فذة ونشيد لا ينسى”.
وحسب شهادة الأيوبيّ؛ فقد كتب البرازي أغنية “حنّا من القصيم” ولحنها وغناها محرم فؤاد. وكتب “صباح الشوق يا بريدة” التي غنتها فدوى عبيد. وكتب “رمان الطايف” التي غنّاها فهد بلان. وكتب “مرّني بجدة” ولحنها وغناها محرم فؤاد أيضاً. كما كتب “حايل يا بعد حيّي”، و “أبها”، وغيرهما من الأغاني السعودية.
جولة
وجاءت أغنية “المنطقة الشرقية” لتكون واحدةً من حزمة الأغاني الجميلة التي كتبها البرازي للمناطق السعودية. وقد أدّاها المطرب السوري فهد بلاّن ومجموعة “كورال” غنائي ساعدوه في الأداء الجميل للأغنية. لتُصوِّر كلماتها الواقع الناهض لحواضر المملكة وسط عقد الستينيات.. الزمن الجميل.
وتدعو الأغنية إلى زيارة المنطقة التي نبع منها الخير:
جادت بالخير علينا
وفْرحْنا وتْهنّينا
فيها ياما تغنّينا
هيّهْ المحبوبة هيّهْ
المنطقة الشرقية
وبعين الراصد الواعي ينتبه الشاعر الغنائي إلى التنمية المتسارعة في عاصمة المنطقة “الدمام”، و كيف “اعتلى البنيان” فيها و في “الظهران والخبر”، وما فيها من “حضارة شادها الإيمان”. وبالعين الراصدة نفسها يستوقف الطبيعة الخضراء الساحرة من “من سيهات حتى راس تنّورهْ”، و “الصورة التي تغار من الصورة”، لشدّة الجمال. ويستوقف”سواقي المُويَهْ والخضرهْ والجو اللطيفْ” التي ترحّب بالزائر “في بلد القطيف”. وهنا يكرّر المغنّي والكورال “الجَوْ اللطيفْ.. في بلَد القطيف”.
ثم يموّج فهد بلاّن صوته البدوي موّالاً متغنّياً ببحر دارين:
أنا بدار الأهَل والاّ أنا بدارينْ
وعيوني من الفرح والشوق ما همْ دارينْ
وبعد دارين؛ يتوقف عند صفوى ومائها المتدفّق الصافي:
ويا عين صفوى مائكِ الصافي
مازال طعمُ الحلو بِشْفافي
ومن واحة صفوى يطير، بكلماته، إلى واحات الأحساء الشغوفة، متوقفاً عن حاضرتها “الهفوف” و “عين أم سبعة” و “عين نجم”، و “جبل القارة”، ونسائمه الريفية المنعشة:
تعالوا للهفوف نشوف إش فيها
مزارعها وعين ام سبعَهْ ترويها
يقولوا عين حلوة مين يُوصفها
أقول الشعر كلّه ما يوفّيها
وفي الأحساء، نخيلاً و ماءً ومعالم ساحرة، يختتم الشاعر والمغنّي النشيد “الشرقاوي” الطريّ، ليضع “الجزء” في “الكل” ويضع الشرقية كلها في السعودية الأم:
سُودي يا بْلادي سُودي
بالروح تفديك أْسُودي
يا أرضَ الحُرَّهْ جودي
يا أرض السعوديهْ
كلمات الأغنية |
هيّا يا ربعي هيّا
للمنطقه الشرقيّهْ
منها الخيرات في بلادي
والنخوة والحمية
***
هيّا نتلاقى فيها
حبّ ووفا نعطيها
وبالإخلاص نحييها
وتردّ لنا التحيّهْ
***
عزمْنا واعتلى البنيان
من الدمام والظهرانْ
وتلقى في الخبر تلقى
حضارَهْ شالَها الإيمان
***
بلاّن:
ومن سيهات حتى راس تنّورهْ
تشوف الخير صوره تغار من صورَهْ
كورال
وسواقي المُويَهْ والخضرهْ والجو اللطيفْ
ترحب بيك.. بِقْدُومَكْ في بلد القطيف
بلاّن:
الجَوْ اللطيفْ
في بلَد القطيف
***
كورال:
جادت بالخير علينا
وفْرحْنا وتْهنّينا
فيها ياما تغنّينا
هيّهْ المحبوبة هيّهْ
المنطقة الشرقية
***
موّال ـ بلاّنْ
أنا بدار الأهَل والاّ أنا بدارينْ
وعيوني من الفرح والشوق ما همْ دارينْ
ويا عين صفوى مائكِ الصافي
مازال طعمُ الحلو بِشْفافي
***
كوبلَيْه ـ بلان:
تعالوا للهفوف نشوف إش فيها
مزارعها وعين ام سبعَهْ ترويها
يقولوا عين حلوة مين يُوصفها
أقول الشعر كلّه ما يوفّيها
***
وعين نجم السّقيمْ تشفيه
ويبرىْ كلّ جرحٍ فيه
وانا بنفوذ ما يرحم لظاها
فرضْ أنسامْ أنعشْنيْ نداها
سألت الربْع قالوا من جبلْنا
جبل قارَهْ على حبُّهْ انْجَبَلْنا
***
سُودي يا بْلادي سُودي
بالروح تفديك أْسُودي
يا أرضَ الحُرَّهْ جودي
يا أرض السعوديهْ
مسلم صبري البرازي |
حظي الشاعر مسلم صبري البرازي (1936 ـ 2011) باحترامٍ بالغ لدى جيل الإعلاميين الذي شهدوا ولادة الإذاعة السعودية الرسمية منذ منتصف الستينيات، ووُصف بـ “شاعر الملك فيصل” لكثرة ما كتب في الملك الراحل الكثير من الأغاني.
وُلد الشاعر في دمشق، منحدراً من عشيرة “البرازية” الكردية التي استوطنت أكثريتها مدينة حماة. وعشيرته المعروفة أنجبت شخصيات سورية بارزة، من بينهم الدكتور محسن البرازي رئيس الوزراء في عهد حسني الزعيم، و البرلماني حسني البرازي الذي ترأس تحرير جريدة “الناس”.
مارس الشعر الغنائي منذ شبابه، وغنّت له نجاة الصغيرة وفايزة أحمد ورفيق شكري وسعاد محمد ونجيب السراج وفدوى عبيد ومها الجابري و(كروان) وغيرهم. وفي 1964؛ جاء إلى المملكة، وعمل في إذاعة الرياض، وكتب أناشيد سعودية راجت بقوة في عقد الستينيات، من بينها نشيد “فيصلنا يا فيصلنا بيدك رافع فيصلنا” لتكون أغنية افتتاح إذاعة الرياض ولحنه الموسيقار طارق عبدالحكيم. عمل البرازي مشرفاً على قسم الموسيقى والغناء في الإذاعة، وأسهم في تدعيم الفرقة الموسيقية. وأمضى في وزارة الإعلام حوالي خمسة وعشرين عاماً، معاصراً ثلاثة وزراء: جميل الحجيلان، وإبراهيم العنقري، والدكتور محمد عبده يماني.
فهد بلان |
1933 ـ 1997
وُصِف صوته بـ “الرُّجولي”، منذ دفع به الملحّن السوري عبد الفتاح سكر إلى الواجهة عبر مجموعة أغانٍ ما زالت رائجة حتى يومنا عربياً. وفي سنواتٍ قليلة حقّق نجوميةً فنية شملت سوريا ومصر، وتزوّج، خلالها، ثلاث نجماتٍ تباعاً، هن: مريم فخر الدين، وصباح، وآمال عفيش.
وُلد في السّويداء، ونشأ بسيطاً، حتى دخل مسابقة فنية كشفت موهبته ليلتحق بـ “كورال” إذاعة دمشق، ومن ثمّ يفجّر طاقته الغنائية، عبر أغانيه “واشرح لها”، و”جس الطبيب”، و”لاركب حدك يالماتور”، و” تحت التفاحة”، و”يا عيني لا تدمعي”، و”هالأكحل العينين”، و”يا سالمة” و”يا ساحر العينين” و”يا بنات المكلا”.
استمع إلى الأغنية كاملة