حسين المحروس في سيرة “مريم”.. ليست مجرد مريميات
قراءة: محمد آل عمير
تبدأ السمة والعلامة المميزة لكل إنسان باسمه؛ يعيش فيه ويُعرّف ذاته منه ويُعرّف الناس به، وفي أحواله الشخصية الرسمية، ويظل يرافقه حتى مماته ورحيله عن الحياة، وحتى حينما يتذكره الناس حال رحيله يتذكروه بهذا الوسم الذي أصبح له اسم معرّف ومعروف.
لكن من ناحية أخرى يظل هنالك أسماء غائبة/ مستترة أو يكاد يخجل من ذكرها نفر من الناس في الملأ العام؛ وذلك لاتجاهات تآلفت عليها العادات الشعبية، لاسيما حينما تأتي الكنية سائدة بارزة عند مناداة الشخوص المعنية بها؛ لاسيما حينما يكون الاسم لامرأة فهذا سيرافق ذكر اسمها – وليس كنيتها؛ بل المقصود هو اسمها المنتمي لعائلتها -؛ سيرافق ذلك الخجل والتحرّج بل أنه أحيانًا سيكون شيء يقلل من هيبة صاحب البيت/القيّوم على الأسرة إذا ذُكر اسم زوجته أو أخته أو أمه في حضرته، والجدير بالذكر أنه في ذات الوقت: كانت المهن والحرف الشعبية التي يألفها النساء واحترفن بها من صنعة يدوية – كصانعة السلال -، أو حرفة منزلية – كالخيّاطة -، أو عمل متجوّل – كـ ” السقّاية ” دور الساقي لتوزيع الماء على أهالي الأحياء المعروفة لديها -.
كان كل ذلك قد اتصل بمجموعة من التوصيفات والسمات التي ترتبط بوجود المرأة ككيان منتج وعامل من عوامل الدخل والاقتصاد على الأسرة وحتى في مستوى توازن الإنتاجية في الطاقة البشرية العاملة في المجتمع؛ من هذا المنطلق أصبحت من حقبة القرن الماضي فيما يبدو من سرد حسين المحروس للحكايا في هذه السيرة الروائية؛ أصبحت هنالك أسماء للنسوة معروفة بسبب اقترانها بحرفة فيها إبداع فني وفرادة جمالية، وترافق السيرة الأولى للعروس والعريس؛ ألا وهي حرفة الخضابة التي تستخرج من نبات الحنّاء تكوينة تشكيلية على نقش الجلد وتبتكر عالمًا خاصًا في دوائر الفن الشعبي على قسمات وملامح العروس؛ مما يجعل من الخضاب رفيق الحكايات المستلهمة من الأيام الأولى للعرس وتقاليده؛ وللشخصية التي تمارس هذه الحرفة شهرة وشعبية لدى الأهالي مما يستدعي تذكرها ولو بكنيتها لكن لأن – كما قيل في السيرة – اسم مريم هو اسم متميز لدى النسوة؛ فصارت هاهنا أيقونة لحرفة الخضابة هي الجدة مريم وأصبحت سمة ممتدة وإشارة تنذر ببدء سرد لأسماء أخرى من جيرانها سواء أكانوا رجالًا أم نساء؛ وقريب منها في كيان العمل كان هنالك أصحاب المهن الشعبية كالقلاف والسقّاية والبزاز والنجار والملحقات من الصديقات اللاتي يتنادمن حديثهن في ضحى الله، وكان لمريم بن محمد السقاي – أي ذاتها الجدة مريم – حضوتها في معالم الذاكرة وصفحات السرد؛ فوجودها يتناثر تقاسيمه من بين الأسماء الأخرى؛ كل النساء مريميات إذا كانوا يألفنّ اسم مريم كوسم وسمة يُنادى بها النساء بصورة مختزلة ومكثفة.
وهنا الحكاية تفرض نفسها؛ فتصبح المريم في الثيمة الرئيسية ليست مجرد مريميات؛ إنها رسائل وأسئلة كثيرة رافقت الأسماء فتحوّلت وأصبحت سيرة تجمع سير متشابهة وترافق سير متآلفة وتمر على سير متباينة؛ لتكوّن بذلك سيرة مدهشة موزعة للخضاب في أنامل مريم، ومريم في تقاسيم الخضاب؛ ليتبدد بذلك الشيء المستتر في الجزء المتبقي من الحكاية: في النسوة التي ضاعت أسماؤهن، وسيرافق تلك الأسماء في كلها ومجموعها ومحصلتها ملامح فوتوغرافية تصف طبيعة المكان في حقبة من زمن مضى؛ كـ المزهرية، الغيمة، الحسينية، التاوة، نيشان، ديرم، الحصير، غرفة العروس، الكتاب الورقي، وحتى في السرد الذي أشبه بالسيناريو المختزل والقصير كما بدا في ” قارئ القمر” الذي وُسم به الحاج محمد علي مال الله.
كما أن السرد اتصف باختزال قصة طويلة إلى لمحة كمَن يستريح من أصحاب الحِرف والزراعة على دكة مقهى شعبي ويحتسي شايه ببعض الحديث، وينصت له في وقت وجيز، ومن ثم يستأنف عمله وحركته من جديد؛ هذا ما لوحظ في ثنايا السيرة؛ لكن رافقت هذه السيرة بعضًا من تكرار يستهدف إشارات لوصف شيء ما وهذا مما لا أراه يخدم الحكاية في تكرار شيء أكثر من مرة؛ إلا أنه من أعطى العمل قوته ودهشته هو ارتباطه بأطراف الحكاية كلها من أسماء وتوصيفات مكانية والعبور على أصحاب المهن وحكايا الصديقات والنسوة التي تتوافد على الجدة مريم.
كل هذا أعطى مدى رحابة البيت الكبير والحي المكثف بتلاقي أهله بالكثير من المتشابهات والاهتمامات والكثير من خدمة بعضهم للبعض مما يؤدي بذلك إلى تكاملية وظيفة المرأة في عملها الذي تحب والرجل في عمله الذي يرغب.
والمحصلة ميزة تنافسية إن صح التعبير لا يتنازع عليها الشركاء في رسم أهداف المنشأة الكبيرة/البيت الكبير وبالإضافة إلى أن العمل رفعة للأمم في أن تكون منتجة مبدعة منتظمة، ولا تكون مستهلكة نهمة مشتتة؛ وكما قيل شعبيًا: الحركة بركة، والحركة هذه ليست مقرونة برجل دون امرأة؛ فالإنسان – آدم وحواء – طاقات مكنونة بالمسير والكدح نحو الأفضل – إن أراد الإنسان ذلك – وإبداع يرسم للأرض معالمها الأجمل – إن انتفعت به – باتساع آفاقها به، وبانشراح الإنسان بها وبآفاقها.
