[ميناء القطيف 17] بالوثائق.. بحّارة القطيف يرفعون شكوى للملك عبدالعزيز.. ضدّ النواخذة اتهموهم بأكل أتعابهم بدعوى الدفاتر العتيقة.. والرّبا.. واستعبادهم بلا حد
[من أوراقي]
ميناء القطيف
مسيرة شعر وتاريخ
الغوص ومجلسه وظلم النواخيذ
كم يفرِحُنا حديث الغوص وذكرياتُه؟ وتطربنا أهازيجه ومواويله، وكم تبهِجنا لآلئه وداناته؟ لكن كم وراء ذلك أخطار مميتة؟ وكم جلب من ضنى وتعاسة وبؤس؟
مرَّةً عبَرَت بالي خواطر عن تعاسة قانص اللؤلؤ فقلت([i]):
مسافرٌ يَزرعُ الآفاقَ أشْرِعةً
ويَفْرُقُ الموجَ، كِبْرًا، وهو مكدود
ويمتطي صهواتِ الريح محتقِبًا
مرارة الجُرح لا يُضنيه مجهود
سهرانُ يعتمر المجداف مِعْصمُه
كيما يفوز بنُعْمىٰ الوعد موعودُ
يشقىٰ، فترفلَ بالأصداف غانيةٌ
يحفى ويحتضن الدانات عِرْبيد
بين ما أقتنيه من الورق؛ مما يتصل بالغوص اثنتان، أولاهما شكوى رفعها بعض عمال الغوص، ممن مُجِلَت أقدامهم فوق هذا الميناء، وأكل البحر أديم أجسادهم، رفعوها إلى الملك عبد العزيز (رحمه الله) يشكون فيها ما يعانون من جور نواخدة (ربابنة) الغوص، وظُلمهم، والثانية مذكرة وقعها أول رئيس لبلدة القطيف في العهد السعودي الراهن؛ خالد بن محمد الفرج، ويظهر منها أنه كان أمين سر مجلس الغوص، ولكن قبل عرض الشكوى أنقل ذروًا من حديث عن الغوص، نقلاً عن كتاب صدر حديثًا لأحد معاصر هذه الحرفة المميتة، وإن كان لم يعمل بها.
1 – الغوص
>الغوص حسب السيد علي هو: > مهنة استخراج المحار- الذي يحتوي، في باطنه، على اللؤلؤ – من قاع البحر، وقد جاء في المنجد: “غاص غَوصًا، وغِياصًا، وغياصةً، ومغاصًا في الماء: غطس، ونزل فيه، فهو غائص، ج غُوَّاص، وغاصة»، ثم قال: “الغوّاص كثير الغوص، من يغوص في البحر على اللؤلؤ والإسفنج ونحوهما”.
ومهنة الغوص مهنة قديمة، ولا نريدُ، هنا، أن نتعرَّضَ للغوص وتاريخه، ومتى بدأ، ولا حتى تفاصيل عمليَّات الغوص، وإنما نريد أن نعطي لمحة قصيرة عنه توضِّح الدورَ الذي لعبه في وضع البلاد الاقتصادي فيما قبل ظهور النفط.
يبدأ (موسم الغوص)، عادة، في شهر مايو، وينتهي في نهاية شهر سبتمبر، وهناك ما يسمَّى بـ (الخانچية)، وهي عملية مبدئية يقوم بها بعض الغواصين في الربيع – شهر مارس – لكنهم لا يذهبون بعيدًا في البحر إلى المغاصات العميقة؛ إذ إن الوقت لا يزال باردًا، كما أنَّ هناك ما يُسمَّى بـ (الرَّدة)، وهي، أيضًا، عملية يقوم بها بعض الغواصين بعد انتهاء فترة الغوص، يقومون بها في شهر أكتوبر، وهي مثل الأولى لا يتوغَّلون فيها بعيدًا في عمق البحر، نظرا لبرودة الوقت[ii].
أمَّا عملية الغوص الرئيسية فموسمها يبدأ – كما قلنا – في شهر مايو، وينتهي في شهر سبتمبر، وفي هذه الفترة تتَّجه السفن – ولاسيما الكبيرة منها – التي تحمل أعدادًا كبيرة من العاملين في المهنة؛ من غَوَّاص، وسَيب – هذه السفن تتَّجه إلى مغاصات بعيدة في عمق الخليج، وتعرف بالهيرات، جمع: هير[iii].
وينقسم العمال إلى غيص، وهو الذي يقوم بالنزول في البحر لجنْيِ المحار، وسَيب، وهو الذي يظلُّ على متن السفينة ممسكًا بالحبل المربوط في رجل “الغيص” ليسحبه من الماء بمجرَّد أن يقوم الغيص بهز الحبل، ويتعرض الغيصُ، أحيانًا، لعملية مهاجمة من سمك القرش، ولهذا فإنه بمجرَّد أن يلمح قرشًا آتيًا نحوه يقوم بهزِّ الحبل حتى يسحبه السيب، ويصعد إلى السفينة حتى يتفادى مهاجمة سمك القرش الفتاك[iv].
ويقوم بتمويل سفن الغوص التجار، مالكو السفن، فهم يدفعون للعمال والربان – النوخذه – المصاريف، مقدَّمًا، قبل عملية الغوص؛ ليعطوها لعوائلهم كمصروف للبيت خلال عملهم في البحر، وتُسمَّى (التسقام)، وتسجل هذه المبالغ عليهم، ثم تخصم من استحقاقاتهم بعد انتهاء عملية الغوص، وبيع ما أنتجوه من لؤلؤ، كما يقوم المموِّلون بتزويد السفينة بما تحتاجه من مواد غذائية، وكذلك ما تحتاج إليه من مستلزماتها.
وهناك تجار اللؤلؤ – وهم غير ممولي السفن – ويُسمَّون «الطوَّاشين»، جمع «طوَّاش»، وهم الذين يقومون بشراء المحصول من اللؤلؤ من عند الغواصين، وقد نشأت بيوتات تملك ثروات طائلة، سواءً ممن كانوا يموِّلون سفن الغوص، أو ممن كانوا يتاجرون في اللؤلؤ، وكانت عملية الغوص وتجارته مزدهرة في كل الخليج.
وكانت كلُّ أقطار الخليج تعيش في بحبوحة وثراء بسبب ازدهار سوق اللؤلؤ، وكانت البحرين مركزًا لسوق تجارة اللؤلؤ، يجمع فيها التجار الكبار المحصول، ثم يذهبون به إلى “بومبي” في الهند لبيعه، حيث كانت سوقًا عالمية يقصدها الراغبون في شراء اللؤلؤ والجواهر الكبيرة من أثرياء أوروبا<.
غير أنَّ مهنة الغوص التي كانت مصدرَ الرزق الوفير في القطيف بارَت، وتدهورت حتى قبل ظهور النفط في المنطقة، ليس لأن أسعار اللؤلؤ قد تدهورت بسبب منافسة اللؤلؤ المزروع في الأحواض فقط، ولكن حتى المحصولُ قلَّ عما كان عليه من ذي قبل.
ولقد ظل البعض مُتَشبِّثًا به، أملاً في أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، ولأن مجالات العمل الأخرى ليست ميسورة، ولا متوفِّرة، ولكن ما إن أتت شركة الزيت للمنطقة، وصارت تبحث عن عمال حتى تقاطر الناس عليها من الغواصين وغيرهم؛ لأنَّ البلاد كانت في وضع اقتصادي سيِّء، وكان الفقر عامًّا، ولقد اختفت تلك المهنة – مهنة الغوص – نهائيًّا من القطيف، بل من كل بلاد الخليج، وإن كان يقال أن بعض أقطار الخليج لا يزال البعض فيها يمارس هذه المهنة، ولكن في نطاق ضيق، ومحدود<[v].
2- دعوة مجلس الغوص في العهد السعودي
لم أقف على أي إشارة تفيد بوجود هذا المجلس في القطيف قبل عهد الملك عبد العزيز (رحمه الله)، إلا أثناء عملي على إعداد كتاب: (مراسلات علي بن حسن أبو السعود ووثائقه، وجدت بينها رسالة مؤرخة في 22 رجب سنة 1352هـ، وموقَّعة بإمضاء المرحوم خالد محمد الفرَج، المشتهر – في زمنه – بشاعر الخليج، وهو أول مدير لبلدية القطيف، موجهة لعضو مجلس الغوص الحاج عبد الله بن حسين بن نصر يشعره فيها بأن مجلس الغوص سيفتح دورته 1352هـ، ويطلب منه الحضور للنظر في الأمور المعروضة على المجلس.خالد الفرج رئيس بلدية القطيف رئيس مجلس الغوص يدعو إلى اجتماع المجلس في 24 رجب 1352هـ
3 – الربابنة يشكون مجلس الغوص والربابنة معًا
الوثيقة الأخرى حصلت عليها من أحد الموقِّعين عليها، وهو أحمد بن سلمان الكوفي (رحمه الله)، المشتهر بشيخ شعراء القطيف، في إحدى زياراتي له أثناء جمعي لديوانه، قبل أن يتفضل منتدى الغدير بإتمامه، ومضمونها شكوى رفعها بعض جَزْوى (نوتية) الغوص إلى الملك عبد العزيز يشكون له فيها ما يتعرضون له من ظلم النواخيذ (الربابنة)، ومجلس الغوص، وهو يضم في عضويته بعض الربابنة.
الشاعر الراحل أحمد الكوفي أحد الذين وقعوا الشكوى المرفوعة إلى الملك
نصُّ الشكوى
>بسم الله
إلى حضرة صاحب الجلالة سيدنا الملك المعظم، الشيخ عبد العزيز، نجل الإمام الشيخ عبد الرحمن الفيصل السعود
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام.
بعده، يا طويل العمر، إحنا خدَّامك ورعاياك عمَّال الغوص؛ في هذه السنين الطويلة واحنا يكدِّدونا النواخدة، وياكلون أتعابنا بدعوة (بدعوى) الدفاتر العتيقة، حتى صرنا مثل العبيد المماليك، ولا أحد منا يقدر يكذِّب دفتر النواخدة مهما يضعون علينا من الرِّبا، ومن الزيادة، فملزومين بتصديقهم، وهذا أمر ماله حدّ ولا لينا (لنا) خلاص منه إلى أبد الآبدين، مع أنه في غير هالبلاد الحكومة لها الحق أن تحاسب النواخدة، وتوضع إلى كل واحد دفتر مخصوص.
ثانيًا – طوَّل الله عمرك، استرَّينا كثير، وفرحنا لما بلغنا أنكم أمرتو بتغيير أعضاء مجلس الغوص السابقين([vi])؛ لأنهم كلهم نواخذة، وأهل عمل، وعلى كل حال ما هم حاكمين إلينا على أنفسهم، والإنصاف في الناس قليل، وشكرنا شفقتكم على ذالك الأمر، ولكن طوَّل [الله] عمرك ما تنضَّم [تَنَظَّم] المجلس حسب ما أمرتو به، ولم يزل – إلى حال التاريخ -ما تغير علينا حال، فنرجوك، يا جلالة الملك، أن تمنُّوا علينا بالأمر الذي فيه راحتنا، ونحن لا نملك من حطام الدنيا سوى أجسامنا التي مَنَّ الله علينا بها لنتكسَّب بواسطتها على عائلاتنا، فإذا ذهبت مكاسبنا سدىٰ هلكْنا، نحن وعائلاتنا، من الجوع. فنرجو أن تلاحظونا بشفقتكم، وأن تأمرونَ أن نختار لنا أعضاء إلى مجلس الغوص خليون من الغرض، كما أننا نسترحمكم في هذه الديون التي استعبدونا بأسبابها، وليس لنا ملجأ إلا الله، ثم جلالتكم، وفي الختام نسئل (نسأل) الله تعالى أن يطيل عمركم، ويأيدكم بتأييده، فلا زلتم ذخرًا إلينا، وإلى كافة المسلمين، والله يحفظكم ويرعاكم، آمين. تحرير في 6/3/1358هـ.
خادمكم: علي زبْران، خادمكم حبيب بن موسى، خادمكم سلمان بن علي، خادمكم حبيب بن صالح، خادمكم صالح بن مهدي، خادمكم أحمد بن علي الكاكه خادمكم علي بن عمران، خادمكم عبد الله بن شمروخ، خادمكم أحمد بن سلمان الكوفي<.
وثيقة الشكوى التي رفعها البحارة إلى الملك عبدالعزيز
————-
([i])ديوان شاطئ اليباب، مطابع الفرزدق، الرياض، الطبعة الأولى، 1412هـ، 1992م، ص: 97.
([ii]) من مواسم صيد اللؤلؤ، أيضًا، ما يعرف بـ (المجنَّى)، وفيه يقوم (المتجنِّي) بجمع المحار راجلاً قريبًا من السواحل، كما في (مجنَّى) السمك، واللؤلؤ الذي يحصلون عليه قرب الساحل يكون، عادةً، صغير الحجم يسمًّونه (قماش)، ومن أمثالهم: (المتجنِّي أربح من (راعي الحضرة)، و(الحضرة): سياج من الجريد يدخله السمك أثناء المدِّ، فينحصر في أعمق مكان فيه ويسمَّى (سرّ الحضرة
([iii])كذا عند أهل الخليج، وهي منخفض عميق في البحر يكثر فيه المحار، وفي اللغة: الهور، وأصلها البحيرة، تفيض فيها مياه غياض وآجام فتتسع، والجمع أهوار. محيط المحيط.
(([iv]يعتقد الغوَّاصون أن القرشَ لا يهاجم فريستَه إلاَّ من الأطراف السفلى، ولهذا لا يتمكَّن من مهاجمة الغواص إلا في منتصف الطريق، أثناء صعوده من قاع البحر، ولكي يتجنَّب الغواص مهاجمة القرش يقوم بـ (التدليخ)، أي إثارة الغبار في الماء؛ كيلا يراه القرش أثناء قيام “السيب” بسحبه إلى السفينة.
(([v]جهاد قلم، السيد علي بن السيد باقر العوامي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1440هـ، 2019م، ص: 280.
([vi])لم يحالفني التوفيق في الحصول على معلومات كافية عن هذا المجلس، ولا أعضائه وأهدافه وصلاحياته، وكل ما لديه عنه صورة دعوة ل، موجَّهة من رئيس بلدية القطيف خالد محمد الفرج. انظرها .