ضيف على “الموظفين الجدد” في مركزي القطيف.. تجربة شخصية...!
حبيب محمود |
ربما ما كنتُ أحتاجُ إلى خُطبةٍ ليتحرّك أحد الموجودين نحو طفلي. لكنّ الانتفاخ الغريب في عنقه والألم الذي يعذّبه، جعلا منّي خطيباً في غرفة طواريء. في الصباح؛ زرت الطواريء، فقالت طبيبة الأطفال “احتقان في الحلق”، وانتفاخ العنق مجرد شدّ عضلي. ومثلها قالت زميلةٌ لها في مركز الرعاية الأولية في القديح..!
الطفل يشرب السوائل من فمه؛ فتخرج من أنفه. والانتفاخ صار أحمرَ، وأكبرَ مما كان عليه صباحاً. ووقت عودتي إلى الطواريء، مساءً، مُنح الصغير الرقم 265 في دور “الجراحة”. والرقم الماثل في الشاشة 239. لم أطلب تمييزاً لطفلي عن غيره من المرضى، لكنّ ثبات الرقم الأخير على حاله قرابة الساعة؛ أثار جزعي على الطفل..!
طرقتُ باب الطبيب الذي بدا وحيداً في العيادة. طلبتُ إليه ـ فقط ـ أن ينظر إلى عنق الطفل. لكنه رفع جهاز الهاتف كاملاً؛ ليُريني الساعة التي في الهاتف. إنها الـ 11. أي أن دوامه انتهى. ذلك حقه كموظف. سألتُه عمّا يُمكنني فعله. دلّني على غرفة الطواريء..!
ذهبتُ إلى حيث أرسلني الطبيب/ الموظف. في المدخل مجموعة من الشبّان السعوديين يرتدون ملابس زرقاء بأنصاف أكمام. وعن يسار الباب “كاونتر” يجلس عنده ثلاثة أو أربعة بملابس بيضاء، منهمكين في أجهزة الحاسب. تحدّثتُ طالباً المساعدة وطمأنتي عمّا يعانيه الطفل. كان الشبّان “الزُّرق” لاهين في حديث عن أفلام هوليود، والآخرون مُلصقين وجوههم في الأجهزة.
للحظات؛ ظننتُني أحدّث نفسي. ثمة غضبٌ مختلطٌ بحزنٍ يحرّضني على الصراخ. الطفل يتألم، والانتفاخ غريب، والماء يخرج من أنفه لو شربه. في أية مهنةٍ يعملُ هؤلاء “الموظفون” الجدد..؟
على آحاد من جدران المستشفى قرأتُ، غير مرّة، ما يُشبه الوعيد لمن يعتدي على ممارس صحي. بالتأكيد لن أعتدي على أحد. قرأتُ في الجدران، أيضاً، إشارات إلى حقوق المريض، وأولويات حالات الطواريء. وقبل أقل من ساعة قال لي أحد اللابسين الأزرق كلاماً حول الأولويات. اقتنعتُ بكلامه، لكن الرقم 239 بقي ثابتاً على حاله، ورقم طفلي هو 265، وطبيب عيادة الطواريء انتهى دوامه، والموجودون في غرفة الطواريء يتحدثون عن أفلام سينمائية..!
وحين طلبتُ المساعدة لطفلي؛ وجدت الجميع “ما عندهم گَيْدْ”. كأنني أحدث نفسي.
يا شباب.. هل فيكم إنسانٌ يعامل طفلي كإنسان ويشرح لي ما هو الانتفاخ الذي في عنقه..؟ يعامله كإنسان، لا كرقم انتظار، ولا كجهاز حاسب آلي.. أخاطبكم كحاملي مهنة، لا كموظفين.. هل فيكم إنسان يعامل طفلي كإنسان..؟
قلتُ ذلك بجدية غاضبة، لكن من دون صراخ.
نهض أحد الجالسين من أمام الحاسب الآلي؛ وجاءني: إحنا خدّامينك.. تُؤمُر بحاجة..؟
أريته عنُق الطفل، وشرحتُ له ما قالته طبيبتان من قبل. أخذ الصغير إلى سرير شاغر، وطلب إلى الممرضين البدء فوراً: علامات حيوية، تحليل دم، أشعة. ثم جاء طبيبٌ آخر هندي، وبذل عنايته، وطرح أسئلته..!
بعد قرابة الساعة؛ ظهرت النتائج. التهاب شديد في الغدة اللمفاوية عند الرقبة. جاء الطبيب الهندي ومعه طبيب آخر، وشرحا الإجراء. فوراً؛ لا بدّ من مضاد حيوي وريدي، ثم التنويم. والأخير هو المشكلة. لا يُوجد سرير. والحل في إيجاد سرير شاغر في مستشفى الولادة والأطفال في الدمام…!
ولكن المستشفى الأخير لم يرد. ولاحقاً قال لي المدير المناوب إن “الولادة والأطفال” لا يرد على مثل هذه الحالات. ثم جاءت طبيبة رابعة، وقالت إن الخيارات المتاحة:
1 ـ انتظار ردّ الولادة والأطفال..
2 ـ أو أخذ الطفل، من قبلنا، إلى الولادة والأطفال..
3 ـ أو انتظار سرير في المستشفى أثناء النهار..!
كان الصباح على وشك التسلل. والأنسب حضور أم الطفل معنا. في كلّ الأحوال والخيارات لا بدّ من وجود الأم في التنويم. قسم جراحة الأطفال نسائي. طمأنتُ الطفل وتأكّدتُ من رضاه عن ذهابي لإحضار أمه. وهذا ما فعلتُ..!
بعد الثامنة صباحاً؛ كان عليّ استخدام “قيمتي” عند من أعرفهم. ليس صعباً على صحافي أن يحصل على سرير لطفله. لكن المُخجِل أن تفوز بـ “بواسطة” تخدم طفلك وحده، فيما مئات من أطفال الناس لا واسطة عندهم..!
أجريتُ مكاملةً واحدة لا غير. رجلٌ أعرف أنه يقدّرني كثيراً. من المكالمة؛ وجدتُ خبراً صحفياً مجنوناً. نائب وزير الصحة في المستشفى نفسه. عليّ ارتداء ملابسي؛ والهرع إلى المستشفى ومزاحمة نائب الوزير، و و و…!
شعرتُ بالخجل. ماذا لو لم يكن طفلي في حاجة إلى سرير..؟ هل سأذهب لمزاحمة نائب الوزير من أجل مادة صحافية تخصّ الناس كلهم..؟
لستُ من هؤلاء الصحافيين يا ولدي.. عليك الانتظار مثل أطفال سائر الناس. في المساء؛ سوف يُغادر طفلٌ سريره في المستشفى، وتحلّ محله..!