لماذا ظلمنا علي جواد الطاهر؟!
محمد رضا نصرالله
حين علمت بوفاة الدكتور علي جواد الطاهر – رحمه الله – لم أجد شخصًا أعزيه، سوى أستاذنا الشيخ حمد الجاسر – أطال الله عمره –.
لم أفعل ذلك مجاملة عاطفية لشيخ الأدباء السعوديين بحسبه صديقًا وفيًا لشيخ الأدباء العراقيين، وإنما لأن الجاسر هو أول العارفين بفضل الطاهر على الثقافة السعودية المعاصرة، منذ حلّ أستاذًا في كلية آداب جامعة الملك سعود سنة 1963م، متعاقدًا للتدريس، كان لا بُدّ له، كما يعبر في مقدماته الثلاث الثرية لكتابه الرائد <<معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية>> من أن يلم بشؤون الأدب السعودي.
فمنذ قرأ كتاب إبراهيم عبد القادر المازني <<رحلة الحجاز>> وهو على مقاعد الدراسة المتوسطة بالعراق، ومنذ اقتنائه لكتاب <<أدب الحجاز>> وهو على مقاعد الدراسة الثانوية هناك.. وهو مشدود إلى دراسة الأدب السعودي، فإذ وصل الرياض، وتولى تدريس مادة الأدب العربي الحديث، وجد من الحيف لهذه البلاد وأدبها وثقافتها، أن تظل في مهاوي النسيان، بينما يدرس طالب الأدب الجامعي أدب مصر والشام والعراق.
هل كان علي جواد الطاهر ، هو أول المنبهين إلى ضرورة الالتفات ، نحو النصوص الأدبية السعودية؟!
إنه بتواضعه الجم لا يفصح عن ذلك، ولكنه في مقدمات الكتاب الثلاث، يشعرك دون ريب ، بأنه من قام بنفض غبار الإهمال، وعناكب عدم الثقة عن المطبوعات السعودية.. فهو يقرر منذ اتصاله المبكر سنة 1940م ببواكير النهضة الأدبية – في الحجاز، ثم في نجد والأحساء والقطيف وجازان وعسير – أن هناك أدبًا جديرًا بالقراءة. لذلك فمنذ حلّ في الرياض ، وهو مشغول الذهن بالتوفر على المطبوعات السعودية، وما إن جمع مادة من هنا، ومادة من هناك عبر بعض تلامذته، أمثال الأستاذين عبد الله الغُلَيقة وعبد الله العميل، ثم الدكتور يحيى ساعاتي، والدكتور محمد حسن باكلا، والدكتور يعقوب إسحاق، والأستاذ عبد العزيز الشُرَيِف.. حتى وجد نفسه أسير مشروعٍ ينوء بحمله نفر من الباحثين، ولكنه يصمم وحده على القيام به.
فإذا هو يزور المكتبات العامة والخاصة، في الرياض والحجاز والمنطقة الشرقية.. متحملًا في سبيل ذلك عَنَتًا ما بعده عنت.. يسأل وبقرأ ويدوِنُ، مارًا بذلك في طرق عسيرة، ومواقف طريفة.. بعضها مضحك.. وبعضها مؤلم.. وبأخلاق العالم الصادق، ومنهج الأكاديمي الرصين، يتوفر على المادة المطلوبة لبحثه.. فإذا هو أمام سيل عرم من المعلومات والقصاصات والمدونات.. كلها انصهرت في مشروع، يتوخى دراسة حركة الأدب والثقافة المعاصرة في المملكة.
كان قد سبق بمشروعه هذا ، كلّ من وضع قلمه في ميدان الدراسة (الببليوغرافية).. أو دراسة حركة الثقافة السعودية.. وعلى أنه تأخر عن نشر أولى حلقات كتابه في مجلة <<العرب>> سنة 1391، 1392، 1393، 1394هـ، فإن الشيخ حمد الجاسر كان كثير التنبيه إلى ريادة الدكتور الطاهر في هذا المضمار.
ولم تفت هذه الحقيقة التاريخية ، معظم المشتغلين بالتاريخ الثقافي السعودي، فما يزال الدكاترة الحازمي والضبيب والساعاتي وآخرون ، ممن اشتغلوا بهذا الموضوع أو على هامشه، يشيرون بالفضل لهذا الأستاذ الجليل، الذي خدم الثقافة السعودية خدمة مخلصة، لم يتوخ من خلالها أي هدف غير علمي، كما فعل بعض الأكاديميين العرب الذين وقعوا بين اثنتين..
إما المجاملة اوالنفاق، بإسباغ ما ليس في أدبنا من صفات!!.. وإما الصمت المطبق على ما كان يجري في المجتمع السعودي ، من علائم الصحة الأدبية، والنهضة الثقافية، وكأنّ النظرة إلينا بدوًا في صحراء بلا أبعاد تاريخية واجتماعية وثقافية، تعزز هذه النظرة الظالمة!.. في حين قام علي جواد الطاهر يتصل بمظاهر هذه الحركة، مقتربًا من أدق خصائصها..
لم يقف عن هذا الحد، بل إنه شجع الأكاديميين والباحثين السعوديين على الثقة بأدبهم.. وراح يعرض مشروعه للنقد منهم.. علهم يساعدونه في إيصال مشروعه ، إلى مستوى النضج الأكاديمي.
والعجيب.. بعد هذا كله.. بعد هذه المعاناة.. وهذا الجهد، ألّا يلقى الدكتور علي جواد الطاهر من أوساطنا السعودية ، ما يستحق من تقدير وتكريم.. ففي الوقت الذي كانت مؤسساتنا ، تفتح ذراعيها لمن هبّ ودبّ من الزاعمين بالكتابة عنها، الكتابة التي تتحول بعد انتهاء الدفع والإكرام ، إلى شتائم في الصحف أو في الكتب!! فإن هذه المؤسسات لم تُلْقِ بالًا إلى ما قام به هذا الأديب العرقي الفذ الذي أحب ثقافتنا، وكتب ودافع عنها أكثر من بعض السعوديين!!.
ولعل رحيله الحزينَ يدفع ببعض تلامذته وأصدقائه، وعارفي فضله إلى الوفاء ، ببعض ما له من دين في أعناقنا.. وذلك بتثمين جهوده الأكاديمية المتنوعة، بين دراسة الأدب العربي القديم والحديث.. إضافة إلى اهتمامه الخاص بدراسة معجمه المتميز عن المطبوعات السعودية.
في الأخير أكشف عن سبب قيامي بتعزية شيخنا الجليل حمد الجاسر في الدكتور الطاهر، فهو أول وآخر من اهتم به كاتبًا من كتاب مجلة <<العرب>>.. وصديقًا وفيًا، وقف معه في شدائده التي تعرض لها حتى أخر لحظة في حياته – رحمه الله وتغمده بواسع المغفرة والرضوان –.
*المقال منشور سنة 1996م، ومعاد نشره في “صُبرة” تنسيقاً مع الكاتب.