كورونا في البيت
جعفر عمران
كان الشاعر قاسم حداد يردد ـ مداعباً ـ في بعض لقاءاتنا: (لا تغادر البيت، ستندم!) في إشارة منه إلى أن حياة المبدع هي داخل البيت وليست خارجه، حياته في مكتبته، وأن عليه أن يكرّس حياته للقراءة والكتابة.
تلقّينا هذه المقولة بشيء من الحزم. وربّيناها معنا، فكانت تؤنسنا في عزلتنا، تضيء في الليل، كي نسهر ونكتب النصّ. ورحنا نختلي في البيت في عزلة منتجة، ليست عزلة رجل مريض أو حزين، بل عزلة منتِجة مليئة بالكتب والنصوص وبالورد. عزلة منتِجة، عزلة صحية.
أمَا وأنَّ كورونا قد قضمتْ التاء المربوطة وصرنا في العزل، فلم يكن الأمر طارئاً أو حبساً أو تحسباً، بل هي عادة ألِفناها بمحبة. “كورونا” لم تقضم حرفاً واحداً فقط، بل قضمت والتهمتْ معها جُمَلاً كثيرة: (روح لأمك أنا باطلع. لا تشيلوا لي عشاء أنا الليلة معزوم، اخذ العيال وديهم الألعاب أو ودّيهم الحديقة. ودني بيت أهلي. زهقانين ودنا السوق….). وقضمت وحطّمت الجملة الجديدة التي لم تبلغ من العمر ثلاثة أعوام: (بطلع مع صديقاتي بنروح كوفي شوب)، حتى أنها لم ترحم الجُملة الرضيعة التي بدأت تقولها المرأة “القائدة”: أنا بروح أشتري أغراض وبعدين بروح اتقهوى في الكوفي شوب وأنتَ ـ بالتاء المفتوحة الله يفتح عليك ـ وأنتَ اجلس في البيت امسك العيال….)
والآن. (يروح لامه فين يا بابا مو العيال وامهم على راسك). وأنت أيضاً صرت (على راسهم واقف في الصالة مثل شرطي. وتبحث في المطبخ مثل مفتّش البلدية).
ها أنت الآن في البيت في إقامة جبرية. عدت إلى القفص الذي يسمونه تجاوزاً “الذهبي” تجاوزاً أو تحبباً. ويجوز لنا أن نجازف ونقول ربما يسمونه اعتباطاً أو طغياناً على حرية الفرد. الفرد: رجل أو امرأة. فالمرأة أيضاً لها حق الرأي والرفض. “ذهبي” لكنه لا يلمع، يعلوه الغبار. تبدّل لونه من شدة الإهمال، تراكمت المواقف السلبية والملفات المفتوحة والجُمل الناقصة وعبارات التهديد وكلمات السخرية و.. “ذهبي” لم يؤثث بكلمات الحب. الحبّ الذي بقي درساً جامداً في مادة المطالعة والقراءة في مادة لغتي الجميلة يا جميلة.
ها أنت عدت إلى القفص الذي تحمل في جيبك من مفتاحه عشرات النسخ، تحمل المبررات والأعذار الكثيرة (المنسوخة والمتشابهة) كي تغادر القفص. كي تظل الشريكة وحيدة تنظر وتنتظر. ها أنت الآن أمام الكاميرا على الهواء مباشرة، من دون تقطيع ولا مونتاج ولا موسيقى تصويرية ولا كذبة سينمائية. عليك الآن يا شهريار أن تروي القصص كي لا تُطرد من البيت. فأين تذهبون؟ كورونا أمامكم وكورونا من خلفكم.
“صرنا في الهوا سوا” جلسنا في البيت وتركنا المدينةَ وحيدةً. ولكن سُرعان (وهنا أحب أن أشكر كلمة “سرعان” لأنها تقدم خدمة جليلة للكاتب. تختصر عليه المسافة. تضعه على الطريق السريع، تنقله من ضفة إلى أخرى) سُرعان ما تكتشف مدى قربكما، تلتقيان في “المتفق عليه” والمؤتلف. تعرف معنى السكن “المهجور”، السكن المؤثث بالمودة والرحمة. ((وجعل منها زوجَها ليسكن إليها)) سورة الأعراف 189.
تنتبه إلى المتروك والمتراكم، تنجز حياة كانت مؤجلة. ترمم المتداعي والمهمل. تختار أسلوبك الخاص، فقد كنت تحمل أسلوب غيرك وحياة غيرك التي يقترحها الآخر، في المأكل والمشرب والملبس، في حركتك اليومية، تحمل أفكار الآخرين وقناعاتهم وتتحدث بها نيابة عنهم كي ترضيهم. “الرضا” المترامي الأطراف الذي لا يمتلئ، الشراهة التي لا تشبع، فلا أنت تعيش حياتك برضاك ولا برضاهم.
ها هي الألفة بدأت تدبّ في البيت. عاد الغائب، عاد بجميع حواسه، مستمعاً ومتحدثاً ومنصتاً. عاد. رجع إلى البيت، وما أحلى الرجوع إليه.