[ميناء القطيف 10] أزمة التجار الهنود وراءها تجار محليون.. ومسؤولون أتراك

[من أوراقي 10]

ميناء القطيف

مسيرة شعر وتاريخ

عدنان السيد محمد العوامي

وما ذا عن التمر؟

لم أقدِّم السلوقَ على التمر اعتبارًا لأفضلية السلوق عليه، أو لأهميته دونه. صحيح إنَّ السلوق مصدرٌ أساسيٌّ لتوفير السيولة من العملات الأجنبية التي يحتاجها الناس، إلا أن أهميته لا تقاس بها أهمية السلوق، فالتمر أولاً له مشتق آخر هو الدبس، وهذا بحاله مصدر تجاري آخر تعيش عليه شريحة عريضة من الناس تجارة وربابنة وغيرهما، ناهيك عن كونه غذاء أساسيًا للبشر والحيوان، يساند الرز والحنطة، والشعير، بجانب الحشائش والقت (البرسيم)، والدخن. إنما قدَّمت السلوق عليه؛ لأن التمر ما زال ماثلاً للعيان، لم تختف صورتُه من الأذهان كما اختفت صورة السلوق، إذ هو ما زال النُّقل المفضل تقديمه في المجالس والحفلات والاحتفالات. فأحببت أن أعرض للنشء صور ذكريات ذلك المتلاشي من الأذهان، فهو – كما أظنُّ – متعطش لها، متلهِّف لرجع أصدائها، فلنلتفت الآن للتمر نستقرئ عنه التاريخ:

عملات الصين وسفنها الكبيرة وطويلة الحسا في القطيف

عالم الآثار “بيتر بروس كورنوال”[i]، زار القطيف سنة 1940م[ii]، ضمن بِعثة قَدِمت للمملكة من أجل التفتيش عن الآثار في القطيف والأحساء كتب عدة مقالا في عدة حلقات في مجلة (البعثة)[iii] الكويتية، يحسن أن أقتَبِس شيئًا مما كتبه في الحلقة الثالثة: >وعلى بعد عشرة أميال من الجهة الشمالية الشرقية من دمام (الدمام) تقع مدينة القطيف، وهي المدينة البحرية الرئيسية في الأحساء، وقد وجدتُ من الأدلة ما يكفي لإثبات أن هذه المنطقة كانت، ولا زالت، مأهولةً بالسكان بكثافة من الأيام التي أعقبت العصر النحاسي حتى يومنا هذا. وقد اختلطت على هذه التربة بقايا آثار تلك القرون العديدة اختلاطًا غير مقصود، فقد كنت ألتقط منها كسرات الأواني الفخارية من مصنوعات القرون الوسطى. كما عثرت على قطع من العملة الصينية تعود إلى أيام الإمبراطور (تشي تسنغ) عام 1085 – 110 – بعد الميلاد، والإمبراطور “لي تسنغ” عام 1224 – 1264 بعد الميلاد.

كانت السفن الصينية الكبيرة ترتاد هذه المياه لتتبادل مع السكان سِلَعَ بلادها النائية، وتقايض بها اللؤلؤ والتمر والعطور وعداها، ومرة صارت العملة الصينية العملة المتبادلة في بعض أقاليم الخليج.

وعلى مقربة من القطيف وجدت نماذجَ من (الطويلة)، وهي قطعة من النحاس المخلوط بالنيكل، وهذه الطويلة على شكل حرف V إحدى شعبتيه مستقيمة والأخرى منحنية قليلاً من طرفها الأعلى وقد ضربت هذه العملة في عهد الكرماتيين (القرامطة) قبل أن تطأ قدما (وليم) الفاتح أرض إنكلترا بمائة سنة، وعلى رغم قدمها السحيق فهي لا تزال مقبولة من أصحاب الحوانيت في هفوف (الهفوف)عاصمة الأحساء[iv].

مؤسسات تجارية هندية في القطيف

>تمّ تأسيس وإقامة علاقات الهنود التجارية مع القطيف لأول مرّة في عام 1864م على يد رجل من كتش (مدينة في الهند) ثري يُدعى كالونجي KALUNGI ، مارس التجارة العامّة لوحده ولمصلحته مدّة اثني عشر عامًا، وأيضًا مارسها بالنيابة عن مؤسسات تجاريّة هندوسيّة أخرى.

وفي عام 1866 أقام تاجر هندوسي كبير آخر يدعى تيلينداس خوبشاند TELANDAS KHUBCHAND يرافقة ستة من مساعديه – أقام مؤسسة تجارية، وبعد عامين من ذلك أخذ شريكًا يدعى صندل بن كيسو SANDAL  BIN  KISU فضمّه إلى مؤسسته. ويبدو أن هذه الشركة مارست وقامت بعمليات تجارية كبيرة حتى عام 1876 حين اضطرت إلى الانسحاب من القطيف بسبب تكبّدها خسائر فادحة نتيجة إفلاس العديد من كبار زبائنها، وهو الإفلاس الذي سببه الانهيار الكامل لسوق اللؤلؤ الهندية. أمّا الشركة الكبيرة المسماة: آسانمول آنادرام وشركاهم ASSANMULL  ANADRAM & CO فقد افتتحت فرعًا لها في القطيف عام 1866، واستمرت في ممارسة النشاط التجاري هناك مدّة ثمانية عشر عامًا تقريبًا، عن طريق وكالة ملشاند جايرامداس MULCHAND JAIRAMDAS في بادئ الأمر، وبعد ذلك عن طريق وكالة الوكيل صندل بن كيسو.

 

وفي عام 1880 أرسلت شركة السادة غانغارام تيكم داس وشركاه MESSRS GANGARAM THIKAMDAS & CO ثلاثة أخوة هم: تاراشاند، ودارسنغ، وتيكشاند دواركاداس TARACHAND,  DARSINGH  AND TEKCHAND  DWARKADAS لتسيير العمليات التجارية لصالحهم، ونيابة عنهم. كما أسس رأسمالي آخر يدعى دامانمال لالشاند DAMANMAL LALCHAND  تجارة لنفسه هناك في القطيف، استمرت حتى وفاته بعد ثلاثة أعوام. إلاّ أن الشركة الأولى (الإخوة الثلاثة) استمرت في نشاطها التجاري في القطيف حتى عام 1895، حين قام القرصان سيّء الصيت أحمد بن سلمان بتشويه تيكشاند وبتر بعض أعضائه في عرض البحر (6) . بالإضافة إلى الشركات الكبرى المذكورة أعلاه، كان بعض صغار التجار الهندوس يقومون بزيارات دوريّة للقطيف، ويقال إن عددهم وصل – في فترة من الفترات – إلى ستين تاجرًا.

لم يكن بالإمكان التأكّد بشكل قاطع من حجم مجموع رأس المال الذي استخدمه التجار والشركات التجارية الهندوسيّة في تجارة القطيف، ولكن مما لا شكّ فيه أن ذلك المال كان كبيرًا جدًّا في فترة من الفترات؛ لأنّ التجار الهندوس كانوا – قبل احتلال الأتراك لميناء القطيف، وعلى مدى عدّة سنوات بعد ذلك الاحتلال – يتحكّمون بالجزء الأكبر من النشاط التجاري، الذي كان يتمثّل – بالدرجة الأولى – بجلب الأرُزِّ والقطن والبضائع القطنية والسكّر والقهوة والبهارات والمعادن والأدوات المعدنية، والتي كانت تستورد عن طريق البحرين. وكذلك تصدير اللؤلؤ والتمور والجلود المدبوغة إلى الهند.

وخلال الأعوام الخمسة المنتهية في عام 1895 تراوحت قيمة البضائع التجارية التي باعها هؤلاء التجار واشتروها في القطيف بين سبعمائة ألف وثمانمائة ألف رُبِّيَة سنويًّا، في حين لم يتجاوز عدد التجار الهندوس المشاركين في هذه العمليات – خلال تلك الفترة – ثلث العدد المذكور آنفًا ستين تاجرًا، واستنتاجًا من هذه الأرقام، يمكن القول إن حجم التبادل التجاري الذي أنجزه هؤلاء التجار – حين كانت آفاقهم واحتمالات نجاحهم أفضل مما هي عليه الآن – بلغ، وبدون أيّة مبالغة في التقدير، حوالي مليون ونصف المليون ربية سنويًّا تقريبًا.

أمّا الأسباب التي أدّت إلى انسحاب الهندوس من القطيف فترجع إلى فترة ثلاثة أو أربعة أعوام تقريبًا [في حدود عام 1900] بعد إقامة مركز جمارك تركي في ميناء القطيف، وفي أعقاب تبنّي الأتراك لنظام الضمان (ضمان الجمارك، أو جمع الضرائب) FARMING THE REVENUES وهو النظام الذي استمر العمل به حتى الآن .

لكي يتمكّن ضامنو الرسوم الجمركية من تلبية المطالب الابتزازية الباهظة التي كان المسؤولون الأتراك يفرضونها، رفع هؤلاء الضامنون الرسومَ تدريجيًّا، وبصورة غير قانونية، من واحد بالمائة إلى ستة بالمائة بالنسبة للبضائع الهندية، الأمر الذي أدّى إلى حرمان التجار الهندوس مزايا عديدة كان التجار القطيفيون المنافسون يتمتعون بها نتيجة نفوذهم المحلّي الذي أمّن لهم معاملة أفضل.

وهكذا فإنّ وضع التجار الهندوس الذي لم يكن يتمتع بأيّة حماية، عرّضهم إلى نَهَم وجشع صغار المسؤولين الأتراك الذين كانوا – وبإيحاء من تجار القطيف الأثرياء في معظم الحالات – يضعون العراقيل في طريق التجار الهندوس، كانت تتمثّل في تأخير وزن التمور بحجّة التأكّد من مبالغ الرسوم المستحقة للحكومة المحلية، وكذلك في منع استخدام الحمير في نقل البضائع إلى المراكب لشحنها، واحتجاز المراكب الشراعية الهنديّة بدواعي الحجر الصحّي (الكرنتينا) لفترات طويلة غير معقولة، ولا منطقيّة، مع أن هذه المراكب ربما تكون غادرت الهند قبل أكثر من شهرين، بالإضافة إلى عدم اكتراث المسؤولين الأتراك للمطالب التي كان هؤلاء التجار يرفعونها لاسترداد ديون مستحقة لهم في ذمّة رعايا الأتراك المحليين.

إن وضع القطيف غير المستقرّ منذ عام 1885، ومحاولة القرصان أحمد بن سلمان اغتيال تيكشاند دواركاداس في عرض البحر في نفس ذلك العام، حيث نجا هذا الأخير، ولكن بعد أن بُترت يده اليمنى، وفقد ما قيمته 40 ألف رُبِّية من اللآليء.. كلّ هذا أدّى إلى تثبيط عزائم التجار الهنود، وإحجامهم عن الإقامة في تلك المنطقة، ثم إجبارهم على عقد صفقاتهم التجارية في القطيف بواسطة تجار قطيفيين لم يكونوا يراعون، دائمًا، مصالح موكليهم، وأخيرًا قامت شركة السادة غانغارام تيكم داس بمحاولة قبل ثلاث سنوات (سنة 1900) لاستئناف نشاطها التجاري، وإقامة فرع لها في القطيف، فأرسلت أحد موظفيها المسلمين ويدعى الحاج جمعة بن ناصر إلى هناك، ولكن المسؤولين الأتراك طردوه، وردّوه على أعقابه. ومنذ ذلك الحين توقّف التجار الهندوس عن التعامل التجاري المباشر مع القطيف نهائيًا تقريبًا[v].

————–

([i]) عالم آثاري حائز على دبلوم الاختصاص في بتاريخ العرب وآثارهم من كلِّيتي أكسفورد وهارڤرد، كلف من قبل شركة  استاندرد أويل أوڤ كاليفورنيا (سوكال) بالبحث عن آثار الأحساء سنة 1940م. انظر: مجلة البِعثة الكويتية، العدد المزدوج 1، و2، لشهري جمادى الأول والثاني، 1372هـ، يناير وفبراير 1953م. ص: 37.

([ii])مجلة البعثة الكويتية، العدد 4، شعبان 1372هـ، إبريل 1953/، ص: 211.

([iii]) نشرة ثقافية أصدرها بيت الكويت بمصر، ثم أبدل اسمه إلى إدارة بعثات الكويت بمصر، صدر عددها الأول سنة 1946م، ورئس تحريرها عبد العزيز حسين من السنة الأولى حتى العدد الثامن من السنة الرابعة، ومن العدد المزدوج التاسع والشاعر لشهري صفر وربيع الأول سنة 1370هـ نوفمبر وديسمبر 1950م تولى رئاسة تحريرها عبد الله زكريا الأنصاري.

([iv]) البِعثة، العدد الخامس، لشهر شعبان، شعبان 1372، مايو 1953م. ص: 266. .

([v]) مجلة الواحة، العدد الأول ص: 96 – 97 .

 

يُبتع الأحد المقبل

 

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×