من يوميات راصدي الطيور المهاجرة

أثير السادة

أثير السادة

قبل أن تعانق الشبابيك ضوء الشمس، يطير المهتمون برصد الطيور المهاجرة باتجاه المواقع التي تقصدها أسراب الطيور في هجرتها الربيعية، الروزنامة تشير إلى الأسبوع الأول من شهر مارس، موعد يهب الفرح والترقب معاً لمن أمضوا سنوات في تعقب الطيور بعدساتهم، حيث الطيور تبدأ شيئا فشيئا بالعودة إلى الشمال، إلى مواطنها الأولى، عابرة من سمائنا كعلامة من علامات الربيع.

يمضي المصورون يومهم في المناطق التي سبق وأن رصدوها، يفتشون عن آثار تلك الطيور المتعبة من الترحال، وهي تستريح في منطقة “اطفيح”، الغطاء النباتي الذي بات البديل لهم في ظل التحولات العمرانية التي لحقت بالرقع الزراعية في الساحل الشرقي، طريق الكويت القديم سيكون خيار المصورين، عوضاً عن “أبوحدرية”، طمعاً في علامات يعرفونها على أطراف الطريق، برك الماء المتناثرة، وبعض المساحات الزراعية التي قد تكون استراحة لبعض تلك الطيور.. قليلة هي السيارات العابرة من هذا الطريق في ذلك الصباح الباكر، وهذا ما قد يهب الدفء والطمأنينة للطيور ويجعلها تستقر هناك.

الهدهد هو من يقص شريط الهجرة، يقول المصور عبدالله الشيخ حسين، وهو يصف واحدة من العلامات التي يعرفون بها بداية الموسم، وقد شوهد قبل أسبوع في مواقع كثيرة، في المقابل يختار المصور محمد الزاير تذكيرنا بالطرق القديمة لرصد مواسم الطيور، والتي تعتمد على النجوم والتغيرات المناخية، وهي دليل الصيادين في القديم والحديث، مشيراً في ذات الوقت إلى براعة الصيادين في اكتشاف المواقع ورصد الطيور خلال ترحالها.

ضوء النهار الباكر يمثل للمصورين عموماً ساعة ذهبية، لكنه عند مصوري الطيور هو ساعة انطلاقة الطيور للبحث عن الطعام أيضاً، هو الفترة التي تخرج فيها الطيور من غيابها، وتصبح ملحوظة في امتداد المكان، هناك يضج الفضاء بألوانهم و أصواتهم، وتجد العدسات طريقها إلى تصوير الكائنات الجميلة بكثير من الراحة، لكن مع الكثير من الحذر، حيث الطيور تتكئ على ذاكرتها ومخاوفها وهي تبحث عن غذائها اليومي، مهمة التصوير ليست بهذا اليسر الذي تبدو عليه، فحتى العدسات الكبيرة تحتاج إلى أن تدوزن ارتباكات الطائر والمصور معاً لتخرج بنتائج مرضية.

كلما عبروا من الممرات الرملية في “اطفيح” حدقوا في زوايا الشجر والحجر بحثاً عن طيور يعرفونها، واحدة من المهارات التي يكتسبها الممارس لتصوير الطيور هي اليقظة ودقة النظر، يصعب على العابر العادي أن يقع على تلك الطيور التي تحسن الاختباء كما تحسن الهروب السريع، لذلك يختار المصورون الالتفات الدائم لاكتشاف كل الاحتمالات والتحضر قبل الاقتراب من طيور لا تبادلك الثقة دائماً.. ثمة طيور يستدل عليها بطريقة طيرانها، وأخرى بمواقع تواجدها، وثالثة بصوتها، ورابعة يجلبها الحظ فتكون صيدا ثمينا للعدسات الجائلة في المكان.

يأتي المصورون وفي داخلهم رغبتان، التصوير والرصد، لذلك ينشغلون في طيلة المشوار بإحصاء ما يرون، بل ودراسة سلوك الطائر الذي يتحضرون لتصويره.. يستمتعون بما يمكن أن يضيف لهم معرفة جديدة، يحاولون تأويل بعض السلوكيات، والتنبؤ ببعض الحركات، وكل ذلك جزء من التجربة التي تجعلهم يفككون الكثير من الغموض في عالم الطيور، هذا البلبول سيدخل في عراك مع أحمر الذيل، فقط انتظر، يحدثنا المصور محمد الزاير وهو يعلم بأن هنالك تنازع في السيادة على المكان بين الطيور، فالبلبول يريد أن يدافع عن عشه في موسم التعشيش، فيما أحمر الذيل لن يجد ما يمنعه من الاعتداء على البلبول وفراخه.. مشهد آخر يقوده إلى اكتشاف حالة من حالات الغزل، هكذا يخمن، حيث زوج من الأصراد، يراقبهم ثالث، في مسافة قريبة لا تحدث عادة!.

 

الرفاق من المصورين يلتقون صدفة في الممرات الزراعية، يتبادلون التحية، كما يتبادلون المعلومات، العدسات الطويلة تتدلى من نوافذهم، فهم جميعاً في لحظة استنفار، متعطشون لاكتشاف ما هو جديد، ورصد ما يجري في مطلع موسم الهجرة الربيعية، ثمة أنواع كانت تتنشر بكثافة كالفقاقة والمدقي وأحمر الذيل، بينما تطل أنواع أخرى بنحو أقل، يدون المصورون مشاهداتهم وملاحظاتهم، ليقارنوا بينها وبين هجرة الخريف، وكذلك بينها وبين المواسم الفائتة، القلق من التحولات المناخية يجعلهم يربطون التحولات في هجرة الطيور بما يجري على الأرض وما يجري في السماء من تغيرات مناخية تمارس ضغطاً على الطيور المهاجرة، وإرباكاً لجداولها وخرائط هجرتها.

ببطء يتحرك المصورون بمركباتهم داخل المكان، ومعها ترتفع الشمس في كبد السماء، تصبح مهمة التصوير في تحد آخر، هو تحدي الإضاءة الحادة والمباشرة، تهدأ رغبة التصوير غير أن رغبة الاكتشاف تستمر، الذاكرة المثقلة بخرائط الطيور ومواقعها ستحملهم إلى زيارة مواقع أخرى رصدوا فيها طيوراً في القريب، هناك يجدون زوجاً من طائر الدوري وقد علق في شباك إحدى المزارع، يتوقفون سريعاً ليحرروا الطائرين من المصير الذي كان سيودي بهم إلى الموت.. الفرح بتحريرهم يعادل هنا الفرح بصورة بالغة الجمال، صور يحبونها كثيرا وهي حماية الطيور.

“اطفيح” مساحة ملونة بمختلف الطيور المهاجرة، هي الموئل البديل لزائري الساحل الشرقي من الطيور البرية وبعض الطيور المائية، ضجيج الصناعة والعمران وكذلك أصوات بنادق الصيد تظل قائمة كمهددات لهذه الهجرات، وما بين راصدي الطيور وصائديها تقع “اطفيح” كمنطقة تنازع بين رغبات متناقضة، بين رغبة الرصد والحماية لهذه الطيور، ورغبة الصيد التي تعرفها أسواق الطيور المتنقلة، وموائد الصيادين، يخاف الراصدون على مستقبل الطيور، فيما يخاف الصيادون على هوايتهم وانقراضها، ولا شيء يوحي بأن ثمة سبيل للتسوية بينهم، أو لإيجاد قانون يحول دون الصيد الجائر والتعدي على كائنات تهاجر للدفء والغذاء، فتجد مصيرها في شباك صياد أو تحت رحمة رصاص بندقيته.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×