[ميناء القطيف 8] قصة السلوق.. من “الخرَاط” إلى السيف
[من أوراقي 8]
ميناء القطيف
مسيرة شعر وتاريخ
إدارتان للبريد والرسوم في الميناء
أشرت في الحلقة السابقة إلى ما ذكرته السالنامه العثمانية من وجود بريد في القطيف، ولا شك أن الشباب المعاصر يتشوق إلى معرفة مكان المبنى الذي كانت إدارة البريد تشغله آنذاك.
والسالنامة لم تشر إلى موقعه، لكنني أظن أنه المكان نفسه الذي أدركته وهو في الركن الشمالي الأقصى من واجهة سور القلعة الشرقي، (انظر الصورة)، وكان يسمى (التيل)، (والكُوْت) أيضًا، فالاسم الأول يعني (الهاتف)، والثاني يعني (الحصن)[i]، وكان يضم إدارة البرق والبريد والهاتف، وأما إدارة الرسوم فيبدو أن السلطنة العثمانية كانت تستوفي الرسوم على البضائع حتى وإن كانت آتية من داخل السلطنة، ولهذا السبب ألغت إدارة الرسوم من مينائي العقير والقطيف، ففي الأرشيف العثماني: (تصنيف عينيات دفتري (Ayniyat deftery 851. Sy. 258 – 259) إشارة لإيقاف تحصيل الرسوم على البضائع في مينائي العقير والقطيف لمدة ثلاث سنوات، إلا على البضائع القادمة من الخارج، إلى أن يتم تشكيل إدارة للرسوم في هذين الميناءين[ii].
عودة إلى السلوق
ما هو السلوق؟
السَّلْق – لغةً – إغلاءُ الشيء بالنار إغلاءة خفيفةً، ومقتضى القاعدة أن يسمى (سليقًا)، بزنة فعيل، ولكن يبدو أنهم جاءوا به بزنة (فَعُول) من باب التفاؤل، فالسلوق والتمر كانا أهم عماد تعتمد عليه القطيف في معاشها، فكانت لهما في مواسم مشهورة يهمنا منها هنا ما نحن بصدده وهو السلوق، وهو يعمل من ثمرة فصيلة مخصوصة من النخيل هي الخنيزي، فيجذُّ بُسْرًا قبل أن يَرطُب (يصير رُطبًا)، فيسلقُ سلقًا خفيفًا، وينشر في الشمس، حتى يجفًّ، ثم يجمع ويعبَّأ في أكياس (أخياش).
مواسمه
للسلوق مواسمُ تبدأ من منتصف الفترة بين برجي الأسد والعذراء (السنبلة)، فيتأهبون لاستئجار العاملين فيه وهم فرق تسمى بحسب الأدوات المستأجرة لها:
المعلق: وعاء مستطيل يشبه الدلو، مسفوف من الخوص تقوَّى أرضيَّته بجريد ممدود فيها، ويشد في أذنيه حبل قوي طويل، يسمى (دلدلا)، ويتولى العمل فيه (ركَّاب “من يصعد النخلة”)، مهمته أن يصعد النخلة أولاً فيجني الرطب اللين، وينزله إلى الأرض بواسطة الحبل (الدلدال)، حيث يستقبله على الأرض عامل يتولى تفريغه.
الشاعوبة (المشعاب): بعد أن يُتمَّ صاحب المعلَّق مهمته من النخلة بتنقية العذوق من الرطب، يصعد صاحب الشاعوبة فيجذَّ (يقطع) العذوق، وينزلها إلى الأرض بواسطة الشاعوبة والدلدال، فيستقبله على الأرض عامل يتولى أخذ العذوق وصفها وتهيئتَها للنقل إلى (المسلَّق)، مكان السلق.
نقل صرام العدوق الى مكينة خراط السلوق
فرقة الحمَّارة
تقوم هذه الفرقة بتحميل العذوق المجذودة على الحمير، ونقلها إلى الفدا[iii]، حيث شيد المسلَّق.
العُدد والأدوات المستخدمة في المسلَّق
1- مكينة تخريط البسر
هي ليست مكينة بالمعنى المتبادر إلى الذهن، وإنما هي صف من الجريد مركوز في الأرض، تُشَدَّ عليه عارضة من الجريد موثقة بالحبال على هيئة مشط كبير، أسنانه في أعلاه، تستخدم هذه المكينة في تخريط البُسر، فيتناوب على العمل عليها اثنان، يجلس العامل على الأرض ورجلاه منفرجتان، ويمسك بالعذق فيرفع بكلتا يديه ثم يهوي به على المكينة فتنشب شماريخها بين أسنان المكينة (المشط)، ثم يجرُّها نحوه، فيتخرط البسر، ويتجمع خلفها، ويقوم عامل بنقلها إلى القدر، فإذا ما حان تفريغ الغلية كانت الغلية التالية جاهزة للتفريغ.
2 – المغرفة:
وعاء من الشبك كبير، يشبه الملاَّس إلا أنه أكبر منه وذو عمق أكبر، ومقبضه طويل يتخذ من خشب صُلب.
3- التنُّور
مبنيٌّ من الرماد، ذو جدارين متقابلين، ركبت عليهما قدر ضخمة، تتسع لحوالي 100 كيلو غرام من البُسر. ويرتفع المسلَّق مقدار متر عن الأرض، ويصعد إليه بعتبات على جانبيه، ويوقد تحته السجين (شرائح من جذوع النخل)، وحين يغلي الماء وتستوي الغلية (الدفعة)، يبادر إلى غرفها خارج القدر، وإلا نضجت وصار السلوق ليِّنًا ففسد.
4 ـ المنشر
بعد أن يتوقف العمل في السلق، وهو عادة عند صلاة المغرب، يذهب العاملون للصلاة، ثم يتناول العشاء، وبعد ذلك يجري العمل في كنس أرض المنشر، وتنظيفها، ثم نقل السلوق ونشره، فلو بات مكوَّمًا في مكانه بلا نشر لتعفن.
بعد أن ييبس السلوق تمامًا ينقل إلى المخازن، ومن لا يملك مخزنًا يجمع سلوقه في مكان آمن عن المطر والرطوبة، عريش، أو عشة، ثم يغطيه بما يكفي من الخوص ونحوه.
فرق الوزن
في بداية برج الميزان يبدأ موسم بيع السلوق، فتنشط حركة التجارة، بوفود التجار على القطيف لشراء السلوق، وأبرزهم البانيان[iv]، حيث يأتون بسفنٍ ضخمة، تسمى: (دناكي)، ومفردها: (دنكيَّة) [v].
في هذا الموسم تتشكل فِرَق لوزن السلوق، تسمى الواحدة منها (عاملة)، وتتألف من رئيس يتولى مسؤولية البحث عن التجار المحتاجين للوزن، وتنفيذ طلباتهم بوزن ما يشترونه أو يبيعونه من السلوق، يليه في الأهمية (الوَّزان)، وهو الشخص المناطة به مهمة الوزن، ولا بد أن يكون قويَّ البنية كي يستطيع رفع الميزان وما يوضع فيه (الوزنة الواحدة حوالي منين = 32 عدا الصنجة)، يساعد الوزَّان عدد من الشكاكة، يقومون بملء الميزان وتفريغ السلوق منه في أكياس الخيش، ثم خياطتها بالمسلة وخيوط السوتلي (خيوط سميكة تصنع من القنب)، ويرافق الفرقة كاتب يسمونه (كرَّاني)، مهمته قراءة (البروات) الحوالات من البائع أو المشتري إلى الفلاح بوزن كمية السلوق المستحقة له تمهيدًا لنقلها إلى مخازنه، أو السفينة إن كانت الكمية مباعة.
تبدأ هذه الفرق عملها منذ الفجر، فيتجمَّع أفرادها عند الرئيس، وبعد الصلاة تنطلق إلى عملها متنقلةً من فدى إلى آخر، ومن قرية إلى أخرى مشيًا على الأقدام، وتستمر في عملها إلى الليل، ومع ذلك فهي أقلُّ مشقةً من الفرق التي مر ذكرها، وبالذات من يتولون عملية الغلي حيث يجتمع عليهم لهب النار وحرُّ الشمس خصوصًا في الظهيرة، ولا ننس أن بعض المواسم يصادف شهر رمضان، وهم صائمون.
أما الأجرة التي يتقاضاها العاملون في الفرقة فليست نقدًا، وإنما هي مقدار معين من السلوق، لا أتذكره الآن، لكنني أذكر أنني عملت في آخر سنتين من عهد السلوق، توقف بعدهما نهائيًّا فلم يعد يسمع به أحد. ويذكر السيد علي ابن السيد باقر العوامي (رحمه الله)، أن أحد أسباب بوار صناعة السلوق هو سعي حكومتي الهند باكستان – بعد استقلالهما عن بريطانيا – إلى الحد من استيراده >لأنه ليس غذاءً ضروريًّا للبلاد، وإنما هو يستعمل كنوع من النثار والحلويات<[vi]. ولعل من الخير أن أحيل القارئ الفاضل على كتاب: جهاد قلم للسيد علي العوامي، ففيه تفاصيل مفيدة عن السلوق.
الحمّارة ينقلون أكياس السلوق إلى السّيف
———–
([i])هندية تعني الحصن.
([ii] )من وثائق الأحساء في الأرشيف العثماني (1288 – 1331هـ)، د. سهيل صابان،إصدار نادي الأحساء الأدبي، مطابع الحميضي، الرياض، الطبعة الأولى، 1430هـ 2009م، ص: 86.
([iii] ) في اللهجة: الفَدا، مسهَّل الفَداء، فصيح، وهو أنبار الغِلال، أي موضع نضدها
([iv] ) Banyan أو Banian في الأصل: شجر الأثأب، أو تين البنغال، أو تين الهند، شجر ضخم، من جنس Ficus (موسوعة المورد، منير بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 1980، 2/27)، وفي اللغة الجوكراتية تعني البائع، وخصوصًا البقّال. واستعملها البرتغاليون دلالة على التاجر الهندي. (Wikipedia: Banyan
([v] ) عند السيد على العوامي: سنبوك، وما سمعته (نكية)، انظر: جهاد قلم، السيد علي ابن السيد باقر العوامي، دار أطياف للنشر والتوزيع، القطيف، ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1440هـ 2019م ص: 287.