ساقطٌ من أعلَى الذَّات
محمد الحميدي
حواجِز، وطبَقَات، وأمتعَة، وركَّاب، وطائراتٌ تهبِط، وأُخرى غادرَت لِلتَّو، وثالثةُ أثَافِيها؛ نارٌ تتوهَّج؛ كَالعنقَاء، تهربُ نحوَ الداخِل، وتحرقُ ما تَبقَّى من موائِد، وولائِم، وتختفِي قبلَ أَن تُعيدَ صِياغةَ نفسِها، تحسُّباً لزمنٍ قادِم، وميلادٍ غيرِ مُتوقَّع.
الحواجزُ عاجزَة، والترانيمُ بتُّ أسمعُها، وأنا خارجٌ بتؤدَّة، ولا أُدركُ شيئاً من أحاديثِ الحوريَّات، إلا التهَاني، فمَن يعبرُ الطرِيق، ويصلُ أقصَى الذَّات، لا يمكنُ إيقافُه، وعليهِ وحدَه؛ حِملُ العِبء، وجوبُ البحَار، وإنزالُ النبُوءَات. كَم أنتَ حكيمٌ أيُّها السحَاب، حينَ تُغمضُ جَفنَيك، وتُلقي بالمطَر!
المكانُ مُبلَّل، والرائحةُ خانقَة. الجماجمُ صهِيل؛ انكسرَ بساحةِ حَرب. رِجلايَ تخُطانِ أسطُرَ الوجُود، وترسُمانِ حركةَ الدلالَة، وعمَّا قَريب؛ سأُولدُ من رحِمِ الذَّات، وطيشِ الكَلمَة، هِبةً إلى العَالم، حينهَا أصنعُ خارطَة، لا مَألُوفَة، تسرقُ الشُّهرَة، من رَاقصاتِ الدلالَة، وخَاطِئاتِ التصَاوِير؛ هوَ العالمُ كَما يتبدَّى، بعدَ حِين!
أَنزِل، وأمرُّ علَى قبرٍ مكشُوف، لأجدَ صُورةَ أنَاي! فقدتُها مُنذُ وَقت، وأنا أعبُر، مُحملاً بالشَّوق، والرغبةِ في اكتشافِ ما لا ينبغِي، أتعجبُ! العالمُ ضيِّق، إنَّما إلى هذَا الحَد، لا فاصلَ بينَ الحقيقَة، واللا حقيقَة. أجلسُ عندَ الشَّاهِد، وأتلُو ترنيمةَ عَزاء.
الرحلةُ مُنهِكَة، وجسدِي لا يحملُ إلَّا النُّدَب. السقوطُ المتكرِّر؛ جَريمَة، مَا عُدتُ أتورعُ عنِ ارتكابِها، فمُنذُ وُطِئتِ البِئر، وحالةُ الما بَين، تجيءُ وتذهَب. وحدِي عليَّ الانتصَار، فالمعاركُ تُخاض، ولا رابحَ إلَّا الفنَاء، أوِ الحصولَ علَى قُبلَة، تُعيدُ ترتيبَ الحيَاة، والموتَى لا يُقبِّلون، ولا يَقبَلون.
الصعودُ سَهل، أمَّا النزُول، أكثرُ مَشقةً من الغَيم. أَن ترَى الأشياءَ علَى غيرِ حقيقتِها، تلكَ هيَ المرحلةُ التي تجتازُها الآن، فالرقيُّ تهوُّر، واستنباتُ شجرةٍ غامضَة، بداخلِ صحراءِ الرُّوح، يا مَن لا روحَ لَه، ولا سبيلَ إلى معرفةِ أنَاه، إلَّا بالعُبور، فلتنزِل أكثَر، ولتحملِ الشاهدَ علَى كَتفيك، وتُكمِل.
غيرُ مُحتمَل، العبءُ أثقَل، وأوجَع، وأمرُّ من الفرَاغ، أُصابُ بالهذيَان، وأنسلُّ إلى الورَاء، أقفُ وحيداً! الهمسُ الشفيفُ يوغلُ في التأنِيب: تقدَّم، فالمرايَا تعكسُ أنَاك، واجتيازُ المسافَة؛ اختبارُكَ الأخِير، وعينُكَ الثالثَة، تَرى الأشياءَ التي لا تُرى. تقدَّم، فالخليقةُ بانتظارِك، والنبوءاتُ لا بدَّ لها من شاهِد.
الفراغُ العمِيق، والخاوِي من الأثَر، تجسَّد، بينمَا أركلُ المرايَا، وأكسرُ المألوفَات، وبقايَا أزمنةٍ سحيقَة، وأتساءلُ: كيفَ لهذَا الجسدِ المتقرِّح؛ أَن يقوَى علَى اِحتمالِ الألَم، وحملِ الشاهِد؟! أَ ثمةَ طريقةٌ أسهَل، تُريحُ الجسَد، وتُفضِي إلى المعرفَة؟ يَصدمُني الهمسُ: لَا.
أتصالَب، وأستقِيم، أرفعُ الشاهِد، وأثقالَ البشريَّة، علَى كَتفَي. أترنَّح، ولا أسقُط، أتمايَل، وأعودُ للثبَات. أحسُّ بالضوضاءِ الناشِبَة، تنطلقُ من الشاهِد، تستغيثُ بي، وتدفعُني. الوجهةُ أمامِي، والطريقُ لا نهايةَ لَه، ولِلعبُور؛ ينبغِي السيرُ ببُطء، آلافُ السنواتِ تنقصُني؛ لأصِل، ولا وقتَ مُتاح، فأبدأُ السَّير، وأغمضُ عيني الثالثَة.
تهدأُ الأصوَات، ولا أسمعُ الهَسِيس. الشاهدُ يغدُو أخَف، أمدُّ يدَي، ألمسُهُ: هَا أنت، لا وزنَ لَك، أينَ اتجهَت أثقالُ العَالم، وخرائطُ المتاهَات؟ لا صَوت، أو نأمَة، سكُوتٌ مطلَق، ورِجلٌ تنطلقُ كَالرِّيح، أخطُو أسرَع، وأتحسسُ الطرِيق، ولا أجرؤُ علَى فتحِ العينِ المقفلَة.
أنسرِب، وأهبِط، ولا عينَ أُشاهدُ عبرهَا الأشيَاء، فمَا عادَ يُمكنُني الوثُوق؛ بما أرَى، أو لا أرَى، العتمةُ والضَّوء؛ سيِّان، فالهاربُ من العَتمَة، كالهاربِ من الضَّوء؛ كِلاهُما مُصابٌ بالعمَى، وأنا؛ هاربٌ من الضَّوء، والعَتمَة، أبحثُ عن مَعبَر؛ لِلولُوجِ إلى الحقيقَة، ولا أجدُ إلا السرَاب. فلأهبِط أكثَر، وأكتشفَ حقيقتِي، وحقيقةَ العالمِ من حَولي.
ثمةَ جزيرةٌ ضائعَة، الأمواجُ تعصفُ بشواطئِها. رجلايَ مُثقلتَان، والشاهدُ يعلُو كَتفَي. الحقيقَة؛ تلكَ الجزيرةُ الهاربَة، عليَّ إيجادُها، ولا أجملَ من السباحَة، واصطيادِها، أمَّا الشَّبكَة، فأحملُها، ولا أُحسُّ بثقلِها. أَ ليسَت شواهدُ قُبورِنا؛ حقيقتُنا الغائبَة، ومآلُنا المرتقَب، والشبكةُ التي نصطادُ بهَا الغَيب؟