الانطباعيون الجدد..! (1)
حبيب محمود |
في الدروس الأولى؛ يبسّط المناطقة ما يُعرف بـ “الجهل المركّب” بوصفه نقيضاً معقّداً للعلم. الجهل المركّب هو نوع متطور لـ “الجهل البسيط”. هذا الأخير يعني أنك “تعرف أنك لا تعرف”، في حين إن الجهل المركب هو أنك “لا تعرف أنك لا تعرف”.
والجهل البسيط = علم + جهل.
الجهل المركّب = جهل + جهل..!
أنت لا تعرف ما وراء الباب، فتقول “لا أدري”. ذلك منطقيٌّ وأخلاقيٌّ. أما أن تقول إن وراء الباب جملاً؛ فإن ذلك يحتاجُ إلى دليلٍ حسّي يؤول بك إلى هذا التقرير. انظر من حولك، واستمع لما يقوله الناس (وأنا وأنت من الناس)؛ فسوف تجدنا نقول ما يضارع إن وراء الباب جملاً، وشماعة، وأشياءَ لا يُقرّها المنطق العلميّ.
في مسألة جدلية؛ يُصرُّ كثيرٌ منا على أن يقول: لا شك، لا ريب، قطعاً، حتماً.. وهلم استشهاداً من إقرارات الحسم والجزم والتأكيد الذي لا يمكن أن يصمد عند أول اختبار منطقي..!
“يعرف الجميع”، “يشهد الجميع”، “كل العارفين يؤكدون”.. مثل هذه الاستعمالات اللغوية الجاهزة في رفوف معجمنا اللغويّ؛ إنما هي أدوات ترسيخ لجهلنا المركّب. المعرفة الشخصية الأحادية تُصبح “معرفة للجميع”، وشهادة الفرد تردُ في صيغة شهادة لـ “الجميع” على زعمٍ ـ أو رأيٍ ـ يخص قائله..!
مُخرجات أفكارنا مشوَّهةٌ جرّاء افتقارها إلى قدمٍ يمكن أن تقف على أرضيةٍ منطقية. وهذه الأرضية أساسها “العلم” الذي يعني “حضور صورة الشيء في العقل”. على أن هذا الحضور قد يكون زائفاً ومضللاً أيضاً. وفي التاريخ ما يكفي لسرد أمثلة صارخة على وراثة الخرافة والمقدس والثابت وكل ما لم يُنزل الله فيه من معنىً..!
كم قرناً من الزمان أهدرت النخب العلمية أعمارها في “جهل مركب” لأشدّ البدَهيات وضوحاً وجلاءً بالنسبة لنا اليوم..؟!
كم كان أرسطو جاهلاً جهلاً مركّباً ـ ومغفلاً ـ في عين فرانسيسكو ريدي الذي كشف أن اللحم لا يتولد منه الذباب، بل إن الذباب هو الذي يساعد على تعفن اللحم. كم مغفلاً أفنى عمره مفكّراً بلا معرفة..؟
أنا وأنت، وملياراتٌ من أمثالنا، لا نعرف أننا نمثل إجابة نموذجية للسؤال الأخير..!