تأملات في صورة سيهات
أثير السادة*
في واحدة من أعداد مجلة القافلة أواخر الخمسينيات، ارتأى محرر المجلة أن يقدم أحد أبناء البلدة وهو حبيب الباشا بالقول: هو من سيهات، تلك البلدة الرابضة بين أشجار النخيل، على ساحل البحر …ولعلها ليست مصادفة أن تسبق أشجار النخيل وصف هذه المدينة في مطبوعات شركة الزيت العربية الأمريكية آنذاك، فحضور سيهات عبر مطبوعاتها اتصل في معظم الوقت بهذه الرقعة الزراعية، التي فتحت نافذة للشراكة بين المزارعين في أطراف سيهات والقسم الزراعي في الشركة، وكانت سيهات الخيار الأنسب لقربها الجغرافي من المركز الإداري بالظهران.
التجول في إرشيف الشركة الفوتوغرافي وإرشيف المطبوعات سيرسم ملامح الاهتمامات التي ساهمت في تأطير الصورة المقترحة لسيهات عبر هذا الإرشيف الغني، فلا شيء يزاحم أخبار العلاقة بين القسم الزراعي والمزارع في سيهات إلا أخبار جمعية سيهات الخيرية التي حظيت بحفاوة ومتابعة من قبل الشركة منذ انطلاقتها.
على مستوى الصورة، لا يمكن القول بأن الصور الزراعية لسيهات وفيرة في هذا الإرشيف، فالصور يجري تنفيذها حسب المهام الموكلة للمصورين، علمأ بأن قسم التصوير لم يخل منذ الخمسينيات وحتى مطلع الألفية الجديدة من مصورين من أبناء البلدة، وقد حاولت مرة سؤال عميد المصورين بالبلدة، علي عبدالله آل خليفة، عن ما إذا كان للمزارع حصة من يومياته في التصوير غير أن جوابه كان بالنفي، معللاً ذلك بعدم الالتفات لهذا الموضوع آنذاك!.
هل حقاً كانت البيئة الزراعية خارج الذاكرة، أو خارج الاهتمامات، وخارج حدود الهوية لأهل البلدة؟
يكتب جون جوردون لوريمر في معجه الجغرافي للخليج في عام 1908 واصفاً سيهات بالقول: أغنى منطقة في الواحة وتعتمد بصفة خاصة على الزراعة وتملك حدائق نخيل وزراعات على الجانبين الشمالي والغربي وتروى أراضي المدينة من ينبوع كعبة، فيما اختار لوريمر التذكير في نهاية التعريف بامتلاك المدينة لثلاثين قارباً لصيد اللؤلؤ، وفي عام 1930 يستعيد المؤرخ ومستشار الملك عبدالعزيز حافظ وهبة صورة سيهات بالقول أن بها كثيراً من العيون الغزيرة، وسكانها يعيشون على الزراعة، وهاتان الشهادتان تلمحان إلى تقدم صورة النخيل والبساتين في وصف المكان، وفي أقل تقدير الإشارة إلى غلبة الحضور الاقتصادي للزراعة في هذه المدينة.
ثمة علاقة متلازمة بين البحر والنخل في سيرة الكائن السيهاتي، هكذا يقول أحد رجالات البحار، وهو يسرد المراوحة بين هاتين الضفتين بحسب اختلاف المواسم، فالبلدة التي تيمم شطر النخيل في مواسم الحصاد هي نفسها التي تعلن الإبحار في مواسم البحث عن اللؤلؤ، ومع تراجع تجارة اللؤلؤ، أصبحت وجهة النخيل حاضرة بنحو أقوى، حتى أن تجار البحر قصدوها كبديل اقتصادي، وذهبوا باتجاه تملك المزيد من المساحات فيها.
فلماذا غابت المساحات الخضراء عن صورة المدينة؟
سؤال سيجيب عنه الفلاحون من القرى المجاورة بالقول أن أهل سيهات قد تركوا مزارعهم، وكانوا أول الناس لحقواً بركب النفط، بعضها كان قدره الإهمال، وبعضها الآخر انتهى للبيع، وهذا مايفسر تحول صورة سيحة سيهات اليوم، السيحة الممتدة باتجاه الغرب، وتشتبك مع حدود بلدة الجش، والمرويات الشفاهية التي يتناقلها كبار السن في هذه المنطقة تحكي عن انصراف أهل البلدة عن هذا المكان مع انطلاقة التحديث الذي جاء مع دخول شركة الزيت العربية الأمريكية إلى فضاء هذا الإقليم.
روح المغامرة التي حملتهم إلى البحر، جعلت لديهم القابلية والقدرة على الذهاب أبعد في مغامرات الحياة، والمشاركة في أعمال النفط، في مواقعه المختلفة، من ابقيق جنوباً إلى السفانية شمالاً، وبقيت المزارع مجرد منظر خلفي لهذه المدينة، منظر يبتعد أكثر فأكثر عن داخل المكان كلما ارتفع الطلب على الأراضي لبناء المساكن في داخلها، فغابت معها صورة غابات فنيطيس باتجاه الجنوب، وتوارت بساتين الطف شمالاً عن الأنظار، كما أدارت بقايا المزارع في حدود النقا غرباً ظهرها وباتت صورة مهملة من صور المكان.
تبدلت العلاقة مع المناطق الزراعية في عموم المنطقة، حيث لم تعد دائرة الإنتاج الزراعي هي الناظم لهذا الشكل من العلاقة، انفتحت تلك الأماكن على أدوار جديدة، مع صعود المشاريع الاستثمارية المختلفة، فخرجت من باب الزراعة لتدخل في باب الترفيه، عبر مساحات جرى تجريفها لتصبح صالحة كملاعب رياضية، أو منتجعات سياحية، أو صالات أفراح، ولم تكن سيهات استثناءاً في ذلك، حيث الجدران الإسمنية الرفيعة تتكاثر في هذه المناطق كمؤشر على تحول المكان إلى صورة أخرى.
————————
* من صفحته الشخصية في فيس بوك، اليوم.