[ميناء القطيف 5] رسالة إلى الملك عبدالعزيز تُخبره: حسابات الجمرك “مخسبقة”..! أول سيارة عرفها السكان قبل 97 سنة.. وتجوّلت في ممرات النخيل الضيقة

[من أوراقي 5]

ميناء القطيف

مسيرة شعر وتاريخ

المبنى القديم هو “الدرويشية”، مكان محافظة القطيف المهجور حالياً، والطريق الترابي يتجه لفرضة القطيف، (تصوير: عبدالمجيد سعيد الجامد)

عدنان السيد محمد العوامي

أول تنظيم موثَّق للجمرك في العهد السعودي الراهن

بعد أن افتَتح الملك عبد العزيز (رحمه الله) الأحساء توجَّه إلى القطيف فدخلها بسلام سنة 1331هـ، 1913م([i])، وقدومه من الأحساء ليس فيه أيُّ إشارة إلى الميناء من قريب ولا بعيد؛ إذ إن مندوبَه إليها – وهو الشيخ عبد الرحمن بن سويلم – اجتمع مع رؤسائها في منطقة تسمَّى مريجب (مريقب، تصغير مرقب)، لكن تطالعنا رسالتان من الشيخ عبد اللطيف المنديل([ii]) إلى الملك عبد العزيز، إحداهما من القطيف، مؤرَّخة في غُرَّة شعبان، سنة 1334هـ، أي بعد ثلاث سنوات من عودتها لحوزة الحكم السعودي، يخبره فيها بذهابه إلى بلدة الجبيل، وترتيب شؤونها، وتحديد أراض للحكومة والسكان، ومنزل للأمير، وتعيين شخصٍ لمراجعة دفاتر متولي القمرق (الجمرك) السيد مكي([iii])، وتدقيق حساباته، حيث وجد الدفتر الذي قدَّمه السيد مكي (مخسبق)([iv]).

ويذكر أيضًا، أنه – بعد انتهائه من الجبيل – ذهب إلى القطيف، ورتَّب إمارتها، وعيَّن لها موظفين منهم أخوه إبراهيم، فمما جاء في رسالته: >وأما من جهة القطيف اعتمدنا الأخ إبراهيم ومعه أولاد بن مرجان عبد المجيد وعمر([v])، واثنين من الذي جونا من البصرة، الباقي الخدم من أهل القطيف الذين يشوفون الخدمة، ولا بيدهم شي<([vi])، ويذكر كذلك أنه طلب من أمير القطيف (عبد الرحمن بن سويلم) دفاتر الواردات والمنصرفات، مع بيان بنخيل بن جمعة وعقاراته، الراجع منها لبيت المال، أو إلى ابن جمعة، كذلك منقولات بن جمعة وأثاثه([vii])

الثانية من الأحساء في الشهر نفسه، وهي تدور حول قيامه بتعيين موظفين في جمرك القطيف، وترميم جمارك القطيف وسيهات وعنك ودارين وتاروت وصفوى، وترميم خان العقير([viii]).

سيارة فورد ومُبَشِّرة في سفينة كاز

في شهر جمادى الأولى سنة 1341هـ يناير 1923م، بعد سبعة أعوام على مجيء المنديل، شهد الميناء حدثًا مثيرًا ربما لم يشهد له مثيل طيلة عمره المديد، أترك وصفه لصانعة الحدث نفسها، وهي المبشِّرة كورنيلا د ألنبرج، المشتهرة (بشريفة الأمريكانية). ففي الفصل الثالث عشر من مذكراتها بعنوان (جَوْلاتي)([ix]) تقول كورنيلا، أو شريفة:

   >كانت أولى جولاتي في عام 1923، وذهبت – يومها، بصحبة الدكتور هاريسون – إلى القطيف، وهي مدينة تبعد 50 ميلاً شمال البحرين، على ساحل الجزيرة [العربية]، وكان حاكمُها([x]) قد طُلِب إلينا الحضور لأداء بعض الخدمات الطبية.

في تلك الأثناء كان الدكتور هاريسون قد امتلك أوَّل سيَّارة تدخل الإرسالية، وكانت (فورد) صالون، ونظرًا لرغبة ذلك الحاكم الشديدة في إحضارنا للقطيف، فقد وعد بأن يوسِّع لنا الطرُق، ويمهد بعضها لعبور السيارة، وكان الدكتور هاريسون يتمنى أن يكون ذلك الكلام صحيحًا، لأن السيارة لا يمكنها أن تمرَّ إلى بعض تلك القرى؛ نظرًا لرداءة الطرق.

 

وقد وقع الاختيار عليَّ لمصاحبة الدكتور هاريسون، ولذلك فقد أسهمت في تحميل الجِمال بالصناديق المملوءة بالمواقد والقناديل والشراشف، والأدوات الطبية وغيرها من الأدوات اللازمة. كانت صناديق أدواتنا الشخصية خفيفة، لا تحتوي إلا على القليل من الملابس وبعض الأغطية؛ لأنَّ الجوَّ كان باردًا في يناير. كما أخذنا معنا بعض المعلَّبات المحفوظة، والكتب.

ابتدأ الجزء الأول من الرحلة على سفينة شراعية، وأذكر الآن كيف أمضى الدكتور هاريسون وقتًا طويلاً يعمل في قاع السفينة في إعداد الصناديق وربطها. والنسيم يهبُّ عبر الخليج، ويضرب الأمواجَ بعضَها ببعض، وأتذكَّر بأنني سمعت العمال يتكلمون عن مواعيد المدِّ والجزر، وجعلني هذا المشهد أتذكر قصص الحواريِّ بولس الذي لا بد وأن فكر مراراً في مواعيد المد والجزر قبل أن ينطلق في رحلاته التبشيرية. كان آخر ما تمَّ تحميله هو السيارة السيدان. وقد صاحب تحميلُها وإنزالها الكثيرَ من المتعة بين المتفرجين من العرب على الساحل وعلى السفن المجاورة. وبعد أن انتهينا من علمنا في ربط السيارة، أصبح الوقت متأخِّرًا والنسيم قد توقف، لكن العمال قرَّروا بدء الرحلة على كل الأحوال؛ لأن السفينة الشراعية كانت ذات محرك كاز صغير، وفي تلك الأمسيَّة راقبنا الشمس وهي تغيب فوق شبه الجزيرة [العربية]، من على ظهر القارب، ونحن مبحرين في طريقنا إلى القطيف. كان الدكتور هاريسون في سعادة لا توصف، وكذلك أنا؛ لأن المغامرات والرحلات الجديدة، كانت دائمًا تؤثِّرُ فيَّ. لم يكن هناك أيُّ شيء مستحيل أمامنا. هكذا تصوَّرنا على الأقل، حتى عمليَّة تنصير المسلمين في الجزيرة العربية كان أمرًا متوقَّعًا، ولكن يلزم بعض الوقت.

وصلنا إلى ساحل القطيف مع ساعات الصباح الأولى، إلا أننا لم نستطع الاقتراب من الشاطئ؛ لأن الماء كان جزرًا، ولذلك وقَفنا على مسافة من الساحل، وحاولنا النوم لبعض الوقت، وبالفعل فقد نمت متكئةً على الصناديق من شدَّة الإجهاد والنُّعاس، وبعد بزوغ الشمس خرج اثنان من رجالنا لإبلاغ الحاكم بوصولنا، والذي وجدناه مستعدًّا للقائنا، حيث رأى بمنظاره سفينتنا عن بعد، ولذلك فقد أعدَّ لنا كل شيء حتى قبل وصول رجالنا الشاطئ، فقد أعد لنا قطيعًا من الحمير، ركبنا على بعضها، وحمَّلنا بعضها الآخر الصناديق، وقبل أن نصل للشاطئ رأينا جماعات من الناس رجالاً وأطفالاً يراقبون نزولنا ونزول السيارة بشغف كبير.

عند وصولي للشاطئ قادني أحد المراسلين (؟) إلى منزل الحاكم، ولذلك لم أتمكن من مشاهدة عملية إنزال السيارة للشاطئ، وفي المنزل تمَّ الترحيب بنا وإبلاغنا بأن الأمير مستعد لمساعدتنا بكل ما يملك من قوة؛ لنكون مرتاحين. وعندما علم الأمير بأننا على استعداد للبقاء ثلاثة أسابيع أصرَّ على أن تكون الزيارة لمدة ثلاثة أشهر. طلب الأمير لنا القهوة وتم إرسالنا لنقيم مع الحريم، الذين (كذا) كنَّ يرقبننا طيلة الوقت من شقوق الجدران الخشبية([xi]) منذ الصباح الباكر، وكنَّ يلبسن العباءة، وقناع الوجه، وقد أجلسونا في الجزء الأقل فَوْضى في الغرفة.

كنا سعداء بدفء الغرفة، وإن كان الدخان المتصاعد من موقد الفحم يضايقنا، ويولِّد سحابات من الدخان، وقدمت صينية الإفطار التي كانت تحتوي على الشاي الحار والمحلَّى، والخبز العربي والدبس والبيض المقلي، والفاكهة  المعلَّبة.

كان علينا أن نسرع في إعداد المستشفى بعد الإفطار، فتركنا غرفة الحريم حيث وجدنا العمال والمساعدين العرب ينزلون الصناديق ويفتحونها. تمَّ إقامة غرفة واحدة لتكون غرفة إعطاء الأدوية للرجال، وغرفة أخرى غرفة عمليات، والثالثة كانت غرفة علاج للسيدات والأطفال.

 

وقد ازدادت أفواج البعوض بعد فترة قصيرة بسبب دفء الشمس. إذ كانت تلك المنطقة مليئة بمياه  المستنقعات المتخلفة عن مياه الري، كان علينا أن نُحَصِّنَ أنفسنا بالعقاقير اللازمة خوفًا من الإصابة بالأمراض، وهذا بالفعل ما حصل؛ حيث أننا التقطنا الملاريا المزمنة والانتكاسات المرَضِية من ذلك الوقت وحتى الفترة اللاحقة أنا ورفاقي من الإرساليين، وأصبح من اللازم البقاء في السرير والخلود للراحة كروتين من جرَّاء تلك الإصابة.

 

وبعد العمل في المدينة لبضعة أيام طلب منا الحاكم أن نزور القرى، وكان قد وفى بوعده لنا وأنهى تبليط الشوارع، وهنا تساءلت ما ذا يكون وضع القرى إن كان الوضع في المدينة هكذا؟ خصوصًا البقُّ والبعوض، فأخبرتني الممرضة الهندية التي كانت ترافقني بأن بالقرية بيوتًا من سعف النخيل وهي عادةً ما تكون أجفَّ من  بيوت الطين التي في المدينة.

———————–

([i])الحركة الوطنية شرق السعودية، جـ1/28 – 29.

([ii])راجع عن عبد اللطيف هذا كتاب (معتمدو الملك عبد العزيز ووكلاؤه في الخارج، محمد بن عبد الرزاق القشعمي ، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1436هـ، 2015، ص:  113 – 144.

([iii])أحد أعيان الفطيف، ومقرَّب لدى الحكومة، وعمدة بلدة الدببية، ضامنُ جمارك القطيف والعقير والجبيل، لدور بارز في وقعة الشربة .

(([iv] عامية تعني: مشوش، غير مرتَّب ولا منسق، أو كثير التخليط.

([v])أحدهما له دور سيء في أحداث سنة 1348هـ المؤرخة، شعبًّا، بـ(نسة الجهاد المثني) سيأتي.

([vi])وثائق تاريخية من الجبيل، محمد على الخاظر.

([vii])المصدر نفسه.

([viii])المصدر نفسه.

([ix])مذكرات شريفة الأمريكانية (قصة البعثة الأمريكية في البحرين ،1922)، تقديم الدكتور عيسى محمد أمين، نشر مطبوعات بانوراما الخليج، البحرين، الطبعة الأولى، 1989ص: 196 – 210.

([x])حاكم القطيف في تلك السنة بالوكالة هو: سلطان بن عبد الله بن سويلم، أخو عبد الرحمن بن سويلم، الذي انتدبه الملك عبد العزيز لمفاوضة أهل بشأن تسليم بلدهم له، وطرد الأتراك، فاجتمع بأعيان القطيف في مريقب (مريجب)بين الجش وسيهات غربًا، وصار أميراً للقطيف حتى توفي فجأة في ربيع الأول سنة 1348هـ، انظر: ديوان خالد محمد الفرج، تقديم وتحقيق خالد سعود الزيد، توزيع شركة الربيعان، الكويت، طبعة 1989م، ص: 26، و الحركة الوطنية شرق السعودية، السيد علي ابن السيد باقر العوامي، نشر رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 2015، جـ2/28 – 29.

([xi])أرجِّح أن تكون غرفة كَرْجِيْل من الجريد المزفون، أي المجدول.

 

يُتبع الأسبوع المقبل

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×