[ميناء القطيف 2] دارين فلذةٌ من القطيف.. وقصة الأعشى وراءها لصوص من العصر الجاهلي إلى زمن المغول
يواصل الشاعر الباحث السيد عدنان العوامي سرد قصة “ميناء القطيف” التاريخي؛ مستعيناً بأمّهات المصادر العربية التي وثّقت الموقع، عبر أدبيات الشعراء، وإشارات المؤرخين. وفي الحلقة السابقة؛ تناول الأستاذ العوامي تاريخ الميناء منذ ما قبل الميلاد، وصولاً إلى ما قبل العصر الجاهلي.
وفي هذه الحلقة؛ يواصل الاستشهاد والاستدلال فيما يخصّ الميناء، من العصر الجاهلي حتى العصر المغولي..
[من أوراقي 2]
ميناء القطيف
مسيرة شعر وتاريخ
العصر الجاهلي
أولى الإشارات لا تحتاج إلى توثيق لاشتهارها، فالجغرافيون العرب متفقون على أن نسبة الرماح إلى الخط، إنما هي نسبة صناعة وتثقيف، للرماح المجلوبة إليها من الهند، لا أنها تنبت فيها، فجلُبها من الهند بالسفن إلى ميناء القطيف لا مراء فيه.
ثاني الإشارات أومأ إليها الأدب؛ في أبيات من قصيدة للأعشى الكبير، مخضرم ( 0 0 0- 7هـ)، مطلعها([i]):
نامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيلَ مُرتَفِقا
أَرْعىٰ النُّجُومَ عَميداً مُثبَتاً أَرِقا
جاء فيها:
وَجيدِ أَدماءَ لَم تُذْعَر فَرائِصُها
تَرعىٰ الأَراكَ تَعاطىٰ المَردَ وَالوَرَقا
وَكٰفَلٍ كَالنَقا مالَت جَوانِبُهُ
لَيسَت مِنَ الزُلِّ أَوراكاً وَما انتَطَقا
كَأَنَّها دُرَّةٌ زَهراءُ أَخرَجَها
غَوّاصُ دارينَ يَخشى دونَها الغَرَقا
فهنا غواص، لا غنىً له عن السفينة والمرفأ، ودارين فلذة من القطيف.
ومن أخرى مطلعها:
تَصابَيتَ أَم بانَت بِعَقلِكَ زَينَبُ
وَقَد جَعَلَ الوُدُّ الَّذي كاد يَذهَبُ
يقول فيها([ii]):
وَكَأسٍ كَعَينِ الديكِ باكَرتُ حَدَّها
بِفِتيانِ صِدقٍ وَالنَواقيسُ تُضرَبُ
سُلافٍ كَأَنَّ الزَعفَرانَ وَعَندَماً
يُصَفَّقُ في ناجودِها ثُمَّ تُقْطَبُ
لَها أَرَجٌ في البَيتِ عالٍ كَأَنَّما
أَلَمَّ بِهِ مِن تَجرِ دارينَ أَركَبُ([iii])
تجر دارين: تُجَّار دارين، لا يستغنون عن السفن، ولا عن الميناء الأم.
صدر الإسلام الأول
أعشى همدان، شاعر عاش بين سنة 30 – 83هـ، فهو إسلامي، له بيتان هما([iv]):
يَمُرّونَ بِالدَهنا خِفافاً عِيابُهُم
وَيَرجِعنَ مِن دارينَ بُجرَ الحقائِبِ
عَلى حينِ أَلهى الناسَ جُلَّ أَمورِهِم
فَنَدلاً زُرَيقُ المالَ نَدلَ الثَعالِبِ
يصف لصوصًا من بني زُرَيق، يعبرون البحر إلى دارين، يندلون (يغرِفون) المال الوفير، فيما الناسُ لاهون عنهم، مشغولون بأموالهم، فمن أين يعبرون إلى ميناء المسك دارين، ويخرجون منها؟
هذه شواهد من جاهلية وإسلامية، تفي بالغرض، فدارين لا يمكن الوصول إليها إلاَّ من ميناء القطيف، اللهم إلا في حال الجزر، وهذا لا يتسنَّى للتاجر، ولا للصِّ، بطيعة الحال.
ونعلم مما قيل عن الردة، عبور عظم الفلال إلى دارين([v])، أنه عبر البحر إليها بالسفن، وهي إشارة ضمنية تفيد انطلاق جيشه من ميناء القطيف، وفي سنة 17 للهجرة تخطى العلاء بن الحضرمي متولي شأن البحرين رغبة الخليفة عمر فوجَّه فرقًا أنجزت غزوَ فارس، على رأس إحداها الجارود بن المعلى، وعلى الثانية سوار بن همام، وعلى الثالثة خُليد بن المنذر بن ساوى، بزعامة خليد([vi]).
يستمر بنا المسار حتى نصل الحِقبة التي قربت فيها الدولة العباسية من الأفول، حقبة اشتداد رياح الفتن، وعواصف الاضطرابات، فيصل أبو سعيد الجنَّابي قادمًا من جنَّابة على البر الفارسي، فيجتاح المنطقة في طريقة إلى مكة المكرمة للإرجاف والتدمير كما قيل([vii])، ولن نقف عندما نسب إليه من فظائع، فكل همنا أن نعرف أنه عبر البحر بسفن ومن ميناء حتمًا، وما دام ميناء القطيف موجود بعده وقبله فهو موجود في زمنه، ومنه نفذ إلى البر، بدليل ما زعموه عن عودته بالحجر الأسود إلى القطيف.
في العهد العيوني
أوَّل إشارةٍ لدور ميناء القطيف وقفت عليها في هذا العهد، وإن لم تذكره بالاسم جاءت في شعر علي بن مقرب العيوني في قصيدة له يفتخر فيها بعشيرته مطلعها:
قُمْ، فاشدُد العيسَ([viii]) للتَّرحال معتزما
وارم الفجاجَ بها، فالخطبُ قد فَقِما
ففيها يقول:
ولم يُنجِّ ابنَ عيَّاشٍ بمُهجتِه
يمٌّ، إذا ما يراه الناظر ارتسما
أتى مُغِيرًا فوافى جوَّ ناظرةٍ([ix])
فعايَن الموتَ منَّا دون ما زعِما
فراح يُطرَدُ طردَ الوحشِ ليس يرى
حبلَ السلامةِ إلا السَّوطَ والقدما([x])
فانصاع نحوَ أَوالٍِ يبتغي عِصَمًا
إذ لم يجد في نواحي الخطِّ معتصَما
فأقحَمَ البحرَ منَّا خلفَه ملِكٌ
ما زال مُذْ كان للأهوال مقتحما([xi])
تسأل منكرًا، أو مستعلمًا: ما دليلك على أنَّ في هذه الأبيات إشارة إلى ميناء القطيف؟
أجيبك بأنَّ الإشارة واضحة وضوح الشمس، فابن عيَّاش لم يجد له ولا لجيشه >في الخط معتصمًا< ففرَّ بجيشه إلى أوال (البحرين)، فأي الموانئ يُمكنه الفرار منها بسفنه، إن لم يكن من الميناء؟
الإشارة الثالثة: وردت في تعريف الزمخشري لمدينة الخط وهذا نصُّه: >الخطً: فرضة بالبحرين تَرفأ إليها السفن التي تجئ من الهند<([xii])، (الزمخشري، توفي 538هـ)([xiii]).
وتسألني، وأين الإشارة إلى الميناء في هذا التعريف؟
وأجيبك بأنها لا تخفى على البصير، فمن تسمية البلد بالفرضة نعلم أنَّها أهميَّة الفرضة (الميناء) هي التي أعطت اسمها علمًا على البلد نفسه، ومُعَرِّفًا به، ومعلوم أنَّ الفرضة، اسم مرادف للميناء، والفرضة، أو الميناء، هي مدخل البلد التجاري، الذي يستقبل سفن الصيد، والسفن التجارية ونفل الركاب على السواء؛ فهي نقطة اتصال البلد – حاضرته وأريافه وباديته – بالعالم.
في العهد المغولي
بعد تلك الحِقبة بقرن واحد، وتحديدًا سنة 641هـ حمل إلينا التاريخُ نصًّا آخر يرويه وصَّاف الحضرة، عن أحد الموظفين العاملين في ميناء القطيف يخبر عن المتاعب التي كانت تعانيها إدارة حاكم جزيرة قيس أبي بكر السلغري من بدو بني عصفور في جباية الرسوم على البضائع الواردة والصادرة من هذه الميناء، فهم غالبًا ما يهاجمون الميناء، ويجبرون الموظفين على دفع الإتاوات لهم ([xiv]).
وصفٌ آخر قريبُ عهدٍ، نسبيًّا، من وصف وصَّاف الحضرة لهذه الفرضة، نقرأه عند أبي الفداء (672- 732هـ، 1273– 1331م)، أورده أثناء وصفه لمدينة القلعة، يهمُّنا منه: >وعن بعض أهلها قال: وللقطيف سورٌ وخندق، ولها أربعة أبواب، والبحر، إذا مدَّ، يصل إلى سور القطيف، وإذا جزَر ينكشف عن بعض الأرض، وللقطيف خَورٌ([xv]) من البحر يدخل فيه المراكب الكبار الموسقة([xvi]) في حالة المدِّ والجزْر. . .<([xvii]), وهذه إشارة إلى عمق الميناء آنذاك، والمراكب الكبار أراد بها السفن الكبار، وهي لا ترفأ إلا في مرفأ (ميناء).
هوامش ———-
([i])ديوانه، تحقيق الدكتور م، محمد حسين، نشر مكتبة الآداب بالجماميز، المطبعة النموذجية، مصر. د. ت، ص: 365 – 367.
([iii])الأركب:ألبعير إحدى ركبتيه أعظم من الأخرى. محيط المحيط.
([v])الكامل في التاريخ جـ2/227.
([vi])المصدر نفسه، جـ2/382 – 383.
([vii])معجم البلدان، ياقوت الحموي، دار صادر، بيوت، د. ت. جـ2/166.
([viii])جمع عيساء: نياق يخالط بياضها شُقرة، أو ظُلمة خفيفة.
([ix])ناظرة مكان معروف بالأحساء.
([xi])ديوان علي بن مقرب العيوني، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، الناشر مكتبة التعاون، الأحساء، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1403هـ 1988م، ص: 538 – 539.
([xii])كتاب الجبال والأمكنة والمياه، تصنيف الشيخ الإمام أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، مطبعة بريل، ليدن، 1855م، ص: 45.
([xiii])المنجد في الأعلام، دار المشرق، والمطبعة الكاثوليكية، بيروت، الطبعة الحادية عشرة، 1976.
([xiv])إمارة العصفوريين ودورها السياسي في تاريخ شرقي الجزيرة العربية (العصفوريون وقصة 150 عامًا غامضة في تاريخ البحرين، عبد الطيف ناصر الحميدان، مجلة الوثيقة، مركز الوثائق التاريخية، البحرين، العدد الثالث، رمضان، 1403هـ ص: 43.
([xv])الخور: منخفض عميق الغور في البحر.
([xvii])كتاب تقويم البلدان، الملك المؤيد أبو الفداء، إسماعيل بن علي بن محمود بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب حماة، دار صادر، بيروت، عن طبعة دار الطباعة السلطانية بباريس 1840م، ص: 99.