أبو نواسٍ: الفاسق الشريف!

محمد الخباز

تتلازم في بعض تصورات الثقافة الدينية دائرة الدين ودائرة الأخلاقِ تلازماً ضرورياً، فالمجتمعات اللادينية هي بالضرورة مجتمعات لا أخلاقية وفق هذه التصورات ولا يمكن أن يكون المجتمع لا ديني وأخلاقي في نفس الوقت. ففي هذه الثقافة ترتبط الأخلاق بمنظومة الثواب والعقاب وبفكرة الجنة كحافز وبفكرة النار كرادع عن الفعل اللاأخلاقي، وبمجرد خروج الإنسان عن هذه المنظومة فإنه يتحول إلى كائن حيواني لا أخلاقي لا يتورع عن فعل المنكرات واتباع الشهوات، إذ ما الذي سيردعه ولاوجود لديه لإله جبارٍ يراقب أفعاله في السماء.

لكن القارئ لتاريخ الحضارات وللتراث المعرفي الإنساني يعلم أن هناك تفكيرٌ أخلاقي ممتد بامتداد عمر المعرفة البشرية والتفكير الإنساني، ويعلم أن مسألة الخير والشر هي مسألة شغلت العقل الإنساني منذ القدم سواءً لدى المجتمعات الدينية أو اللادينية، ولذلك فهو يفصل بين مسألة وجود الإله من عدمه ومسألة الخير والشر في الفعل الإنساني، فهما مسألتان منفصلتان، ولا تلازم بينهما.

ولذلك فقد كانت وما زالت هناك مجتمعات لا دينية أو ذات أديان بشرية لا إلهية ولها أخلاقها وقيمها ومبادئها الخيرة والعظيمة والمشرقة. ولذلك أيضاً فالملحد الذي ينفي وجود الإله أو هو لا أدريٌّ لم تقنعه براهين وجود الإله لا يعني بالضرورة أنه يحل لنفسه الكذب والخيانة أو أنه بخيل وأناني أو أنه يفعل المنكرات، فالدين والأخلاق دائرتان منفصلتان قد يلتقيان وقد لا يلتقيان، والملحد كأي بشرٍ آخر قد يكون ذا صفاتٍ أخلاقيةٍ محمودة وقد يكون ذا صفاتٍ أخلاقيةٍ مذمومة. والإنسان العاقل الفاضل تدفعه نفسه لفعل الفضائل لا لكسب ثواب ولا لدفع عقاب بل حباً بالفضائل لذاتها. وهو ما يعبر عنه الفيلسوف الذي لا يؤمن بالمسيحية (بيرتراند راسل) بـ(النزعة إلى الخير) في مقالته المشهورة “ما الذي أؤمن به”.

ولو فكرنا في المسألة بالعكس، وقلنا: هل المسلم بالضرورة هو محمود الصفات الأخلاقية، فالجواب بالنفي طبعاً، فالمسلم قد يكذب وقد يسرق وقد يخون وقد يظلم وقد يفعل غير ذلك من المنكرات وعظائم الأمور رغم إيمانه بوجود إلهٍ سيعاقبه على أفعاله. ولو نظرت إلى بلادنا الإسلامية لوجدت في أماكن كثيرة مسلمين بلا إسلامٍ، ومنهم من لا يسرقون أشخاصاً مثلهم بل قد يسرقون وطناً بأكمله دون أن يرف لهم جفن، فكون الدين يحث على فضائل الأخلاقِ لا يعني أن المنتمي لذلك الدين هو فاضل أخلاقيٌّ بالضرورة، فالإسلام شيءٌ والمسلمين شيءٌ آخر.

وقد يبني البعض على هذا التلازم بين الدين والأخلاق توهماً بأن الأخلاق منشؤها الدين، أي أن الإنسان بطبيعته العاقلة لا يمكن أن يهتدي إلى الأخلاق الحميدة والذميمة إلا بنص إلهي، والأمر ليس كذلك، فالعاقل لا يحتاج لنص إلهي ليعلم أن الكذب مذموم والصدق محمود. والأمر لا يقتصر على العقلاء الذين يولدون في حضارة عريقة لها تاريخها المعرفي، بل حتى البدوي الذي لا حضارة لديه تجده يهتدي لشيء من القيم. وقد كان للعرب قبل الإسلام مبادئ وقيم وفضائل يتنافسون فيها دون أن يكون لهم نص إلهي يحثهم عليها، وأشعارهم تشهد لهم بذلك. وليس صحيحاً أنه كان عهداً مظلماً لا نور فيه ولا قيم ولا أخلاق، فهذا التصور السلبي التام قد بناه المسلمون في مخيلتهم بعد ذلك عن العهد الذي سبق الإسلام رغبةً منهم في إظهار فضل الإسلام، وما كان الإسلام بحاجةٍ لذلك.

بطبيعة الحال لكي يكون كلامي أكثر دقة أحتاج لتعريف دائرة الدين ودائرة الأخلاق، وبيان حدودهما إن كان لهما حدود، وبيان إن كانت الأخلاق جميعها بإمكان الإنسان الاهتداء لها، أم أن من الأخلاق ما يهديه إليها الدين وليس العقل، وبيان منشأ الأخلاق هل هو العقل أو الفطرة، لكن المقالة لا تتسع لذلك، فليعذرني القارئ على هذا القصور، فهذه مقالة أدبٍ لا مقالة فلسفة.

وبما أني ذكرت الفلسفة، فيقال أن أديبنا الظريف أبا نواس قد صحب شيخ المعتزلة إبراهيم النظَّامَ زمناً ما وألَمَّ بشيءٍ من الفلسفة. ولذلك فهو يعيد تعريف نفسه للناس فاصلاً بين دائرة الدين والأخلاق، فكونه ليس صاحب دينٍ لا يعني أنه ليس صاحب أخلاقٍ:

إنّي، وإنْ كنتُ ماجِناً، خَرِقاً،

لا يَخطِرُ النُّسْكُ لي على بالِ

لَذو حَياءٍ، وذو محافَظَة ٍ،

مبتاعُ حَمْدِ الرّجالِ بالغالي

إنْ دنّسَ المالُ عِـرْضَ ذي شـرَفٍ

فإنّ عِرْضي يُصانُ بالمالِ

وكونُ أبي نواس يعيد تعريف نفسه في خمرياته، ويُلمِّح إلى هذه المسألة بين مقطوعةٍ وأخرى، يُظهِر لنا أن هذه المسألة كانت محل التباسٍ في زمنه أيضاً وليس في زمننا فقط، وأنها كانت سبب لومٍ كثيرٍ كان يتعرض له أبو نواسٍ:

أعـاذِلَ ما على وجْهِي قُتومُ،

و لا عِـرْضي لأوّلِ من يسومُ

يُفَـضّـلني على الفتيانِ إنّي

أبِيتُ فَلا أُلامُ، وَلا أُليمُ

أعاذِلَ إنْ يكُنْ بُرْدايَ رَثّـاً،

فلا يعْـدَمْكِ بينهما كريمُ

ومتّـصـلٍ بأسبابِ المعالي،

لهُ في كلّ مكْرُمَة ٍ قَديمُ

رفَـعْتَ له النـداءَ : بِقُـمْ، فخذْها،

وقد أخَذَتْ مطالعَها النّجومُ

ولا شك أن المتنزه في خمرياتِ أبي نواس الظريفة سيجذبه مجونُ أبي نواس وستشغله مغامراتهُ الطريفة مع الغلمان وستملأ حواسه هذه الخمريات برائحة الشراب وأضواء الكؤوس التي تنير لأبي نواس وندمائه الليل الحالك. لكن القارئ المتمعن سيلحظ في زوايا هذه الخمريات أموراً أخرى، بل وقد يجد ما هو ضد الفرح كعذاباته وهمومه في قوله:

لأقْطَعَنّ نيَاطَ الْهَمّ بالْكاسِ،

فليسَ للْهــمّ مثْـلُ الـكـأسِ من آسِ

فسقّنِيها سُلافاً، سلْسلاً، حُجبَتْ

في دنّها حِقَباً في ركْنِ ديماسِ

صفراءُ تضْحكُ عند المزْجِ من شغَبٍ

كأنّ أعْيُنَها أنصافُ أجراسِ

كأنّ كاساتِنا، والليلُ مُعتكِرٌ،

سُـرْجٌ تـوَقَّـدُ في محْـرَابِ شمـّــاسِ

هذا وذاك، وفِتْيَانٌ لهمْ أدَبٌ،

شُمُّ الأنوفِ، سَرَاة ٌ غيرُ أنكاسِ

ولكني سأكتفي في هذه المقالة باستخراج شيءٍ واحدٍ من زوايا هذه الخمريات، وهو هذا الذي تكلمت عنه من الفصل بين دائرة الدين ودائرة الأخلاق عند أبي نواس. وكثيرٌ هو الكلام عن فجور أبي نواسٍ، لكن الكلام عن أخلاقه يكادُ يكونُ معدوماً.

إن تعامل المجتمعات الإسلامية مع مسألة (الشراب) متغير بتغير الزمان، فبعد أن كان الشراب شيئاً عادياً في المجتمع العباسي مثلاً، حيث مجالس الشراب في قصور الخلفاء، وحيث الفقهاء يتناقشون في ما هو محلل منه وما هو محرم، وحيث الأدباء يكتبون في فضل الشراب، إلى أن تحول إلى عظيمٍ من عظائم الأمور، ومحرمٍ من أعظم المحرمات. غير أن ارتباط مسألة الشراب بمسألة الانحلال الأخلاقي هل كانت فكرة ثابتة من ذلك الزمان وشائعة كما هي في زماننا الآن فلا أستطيع الجزم بذلك، لكن ما يبدو من شعر أبي نواس أنها كانت موجودة نوعاً ما. وإذا تأملت في زوايا خمرياته فستجد ظلال هذه الفكرة كما ذكرت لك. فمن ذلك أنك تجد أبا نواسٍ لا يترك وصف ندمائه، وحين يصفهم فلا يترك إسباغ الفضائل الأخلاقية عليهم. فهم مرةً سادةٌ نجب:

يا شقيقَ النفْسِ من حَكَمِ

نمْتَ عَن لَيلي، ولمْ أنَمِ

فاسقني الخمرَ التي اختمَرَتْ

بخمارِ الشّيبِ في الرّحمِ

في نَدامَى سادَة ٍ نُجُبٍ

أخَذوا اللّذّاتِ مِنْ أُمَمِ

فَتَمَشّتْ في مَفاصِلِهِمْ

كتَمَشّي البُرْءِ في السّقَمِ

وهم تارة سادة نحارير:

وَأَحوَرِ المُقلَتَينِ مُكتَحِلٍ

في فِتيَةٍ سادَةٍ نَحاريرِ

في مَجلِسٍ مُشرِفٍ عَلى شَجَرٍ

يَضحَكُ تُفّاحُهُ إِلى الخَيرِ

وهم تارة فتيان صدق:

وَأحْـوَرَ، ذمّــيٍّ، طــرَقْتُ فِـنــاءَهُ،

بفتْـيـانِ صَـدْق، ما تَرَى منهمُ نُكـرا

فلمّا قرعْنَا بابَهُ هَبّ خائفاً،

و بادَرَ نحو البابِ، مـمـتلِـئـاً ذُعْـــرَا

وقال: مَـنِ الطُّرَّاقَ ليــلا فِـناءَنـا ؟

فقلتُ له : افْتحْ ! فتية ٌ طلبوا خـمـرَا

وهم تارة فتية أحرار:

فيه مدام كعين الديك صافية

من مسك دارين فيها نفحة الغار

يارب ليل طرقنا بيت صاحبها

بفتية كنجوم الليل أحرار

ولذلك فأبو نواسٍ حينما شاب تحسر على فراق ندمائه وتشعب طرقهم وتحسر على تلك المجالس التي كانت تجمعه بتلك الفتية من ذوي الأخلاق والأدب:

مَنازِلٌ قَد عَمَرتُها يَفعاً

حَتّى بَدا في عِذارِيَ الشَهَبُ

في فِتيَةٍ كَالسُيوفِ هَزَّهُمُ

شَرخُ شَبابٍ وَزانَهُم أَدَبُ

ثُمَّ أَرابَ الزَمانُ فَاِقتَسَموا

أَيدي سَبا في البِلادِ فَاِنشَعَبوا

لَن يُخلِفَ الدَهرُ مِثلَهُم أَبَداً

عَلَيَّ هَيهاتَ شَأنُهُم عَجَبُ

وبطبيعة الحال فإن وصف أبي نواسٍ لأخلاقهم لا يمنعه من وصف فسوقهم أيضاً، ذاك أن الدائرتين منفصلتين عند أبي نواس، ولا يمتنع عنده وجود الفسق مع وجود الأخلاق:

وفتيانِ صِدْقٍ قد صَرَفْتُ مَطيّهُمْ

إلى بيْتِ خمّـارِ نَزَلْنا بهِ ظُـهْـرَا

خرجنا، على أنّ الْمُقَامَ ثلاثَة ٌ،

فطابتْ لنا حتى أقمنـا بهـا شهــرا

عصَابَة ُ سُوءٍ لا يرى الدهرُ مثلهمْ،

و إنْ كنْتُ منهمْ لا بريـاً، ولاصِفْرَا

إذا ما دَنَا وقْتُ الصّلاة ِ رَأيْتَهُمْ

يحثّونها، حتى تفوتَهُم سكْرَا

وإذا دققت فسترى أن الأوصاف التي مرت بنا في الأبيات السابقة هي أوصاف عامة مجملة، قد لا تستبين معانيها بدقة، غير أن أبا نواسٍ لا يتركنا في هذا الإجمال دائماً، بل يأخذنا أحياناً لتفاصيل الصفات. ومن هذه الصفات التي يفصل فيها أبو نواسٍ صفة الكرم والجودِ، وهي صِفةٌ مهمةٌ في النديم، ذاك أن مجالس الشراب في الحانات ليست مجانية، وأبو نواسٍ يصف في كثير من الأحيان مشهد دفع النقود ومساومة الخمار على سعر الشراب، فتخيل لو أن أبا نواسٍ ينادمُ بخيلاً فكيف سيكون مجلسهم؟ ولذلك فأبو نواسٍ يمدحُ صفة الكرمِ في الندماء في عدة مواضع، منها قوله:

وندمان صدق من خزاعة في الذرا

أغر كضوء الصبح حلو الشمائل

يهين رقاب المال في كل لذة

وليس بسماع لقول العواذل

كريم مطير الكف يهتز للندى

كما اهتز سيف في أكف الصياقل

ومنها قوله:

وصاحبٍ زانَ كلَّ مُصْطَحبٍ

يُنمَى، إذا ما انتَمى، إلى اليَمَنِ

أرْوَعُ، مَحمُودَة ٌ خَلائِقُهُ،

يَبذُلُ في الْخَمْرِ أفْضَلَ الثّمَنِ

بَدْرُ ظَلامٍ، غِياثُ مجدِبَة ٍ،

مَعدِنُ بَذْلٍ، يَهْتَزّ للمِنَنِ

مَهَـذّبٌ، ماجِـدٌ، أخو كَـرَمٍ،

قَرْمٌ يُرَجّى لحادِثِ الزّمَنِ

ومنها قوله:

كأنّما الشَّربُ بَعدَ هَـذْي،

صَـرْعَى تَمـادى بهـمْ كَـلالُ

حتى إذا ما بـدا سُهَـيْـلٌ،

وحانَ مِنْ لَيلِنـا ارْتِـحــالُ

نبّهتُ طَلْقَ اليَدَينِ، سَمحاً

يمطرُ من كفّهِ النّوالُ

فـقلتُ : خذْها فـدَتْكَ نَفسي،

فكُلّ شيءٍ لَهُ زَوالُ

وكما أنه يمدح الكرمَ في مجالسِ الشراب فهو يذم البخل فيها:

ياابْنَة َ الشّيخِ اصْبَحينا،

ماالذي تَنْتَظـرينَا

قَد جَرَى في عُودِكِ الْمَا

ءُ؛ فأجرِي الْخَمرَ فينَا

واصرِفيها عَنْ بَخيلٍ،

دانَ بالإمْساكِ دينَا

صفةٌ أخرى يفصِّل أبو نواس فيها، هي صفة الأدب في الحديث، وأدبُ الحديثِ أو أدبُ المنادمة صِفةٌ واسعة يذكر أبو نواسٍ بعض تفاصيلها، ومنها كف الحديث عن عيوب الناس:

نفَـسُ المُـدامَـة ِ أطيـبُ الأنْفـاسِ،

أهْـلاً بمـنْ يحميـهِ عن أنْـجَـــاسِ

فــإذا خلوْتَ بشُـرْبهـا في مجْلسٍ،

فـاكفُـفْ لسـانَكَ عن عيـوبِ الناسِ

في الكأسِ مَشْغَلَة ٌ، وفي لذّاتها

فـاجْعَـلْ حـديثَـكَ كلّـه في الكــاسِ

صَـفْـوُ التّـعَـاشُـرِ في مُـجانَبـة ِ الأذَى،

وعلى اللّبيبِ تَخَيّرُ الْجُلاّسِ

ومنها حلاوة الأحاديث:

كأنّما حفّ من قَراقِرِهَا

بـطـوْقِـهـا جـلْـدُ حيــّــة ٍ يَـقَـــقُ

في مجلـسٍ ليس فيـه فـاحشَـة،

إلاّ حديثٌ، ومنطقٌ أنِقُ

ومنها تجنب السفاهة:

أحسنُ مِنْ وَقفَة ٍ على طَلَلِ،

كأسُ عُقارٍ، تجري على ثَمِلِ

يُديرُها أحْوَرٌ، بهِ هَيَفٌ،

معتَدِلُ الْخَلقِ، راجحُ الكفَلِ

على شَبابٍ ما فيهمُ خَرِقٌ،

ولا سَـفيـهٌ، ولا أخـو زَلَــلِ

فإذا حدث وزل لسان أحدهم فإنهم لا يحفظونها عليه من حسن أخلاقهم:

الوردُ يَضحك، والأوتارُ تصطخبُ،

والنّايُ يندبُ أحياناً، وينتحبُ

والقومُ إخوانُ صدْقٍ بينهم نسبٌ

من الموَدّة ِ ما يرْقَى له نسَبُ

تراضعوا دِرَّة َ الصهباءِ بينهمُ،

وأوْجَبوا لنديمِ الكأسِ ما يجبُ

لا يحفظونَ على السّكرانِ زَلَّته،

و لا يُريبكَ من أخلاقهم رِيَبُ

وهم سند لبعضهم البعض عند نقص المال وعند زلل اللسان:

سقياً لِمَجلسِ فتيانٍ أنادِمُهُمْ

ما في أديمهمُ وَهْيٌ، ولا خَلَلُ

هذا لذاكَ، كما هذا وذاكَ لِذا،

فالشّملُ مُنتَظِمٌ، والحبلُ متصلُ

وهم معشر كرامُ الأنفس لا لئيمَ بينهم:

ولا تَسْـقِ المـدامَ فـتى ً لَـئـيـماً،

فلسْتُ أُحِلُّ هذي للّئيمِ

لأنّ الكَرْمَ مِنْ كَرَمٍ وجُودٍ،

وماءُ الكَرْمِ للرّجُلِ الكَريمِ

ولا تَجْعَلْ نَديمَكَ في شَرابٍ،

سَخيفَ العقلِ، أوْ دَنِسَ الأديمِ

ونادِمْ إنْ شرِبتَ أخا معالٍ،

فإنّ الشّرْبَ يجمُلُ بالقُرُومِ

وإنّ الْمَرْءَ يَصحَبُ كلّ جِيلٍ،

ويُنسَبُ في المدامِ إلى النّديمِ

وبطبيعة الحال فإن أبا نواس لا يصف كل من يشرب بهذه الصفات وإنما يصفُ من ينادمهم هو فقط، ولذلك يقول:

أَثْني على الخمرِ بآلائها،

و سَمِّها أحسَنَ أسمائها

دارَتْ، فأحيتْ، غيرَ مَذمومة،

نُفوسَ حَسراها وأنْضائها

 والخمرُ قد يَشرَبُها مَعْشَرٌ

لَيسوا، إذا عُدّوا، بأكفائِهَا

ولذلك فهو يتخير ندماءه من الشرفاء ومن إخوان الصدق، ولا ينادم أي شخص يصادفه في مجلس الشراب:

فجاءهَا مُسْتَعِدّاً

كالحارث بن عبادِ

فأذهلتْني عَقْــلي

و اسْتَأثَرَتْ بفُؤادي

واخترْتُ إخوَة َ صِدْقٍ

من خيرِ هــذي العِبــادِ

شريفٌ ابنُ شريف؛

جوادٌ ابنُ جوادِ

وهو حين لا يجد مثل هذا النديم الشريفِ فإنه يفضل الشراب وحيداً:

خَلَوتُ بِالراحِ أُناجيها

آخُذُ مِنها وَأُعاطيها

نادَمتُها إِذ لَم أَجِد صاحِباً

أَرضاه أَن يُشرِكَني فيها

إن هذا الإصرار من قبل أبي نواس على تخير ندمائه من الكرام لا من اللئام ومن ذوي الجود لا من ذوي البخل ومن أهل الأدب لا من أهل السفه يوصلنا لنتيجةٍ مفادها أن أبا نواسٍ أيضاً كان من الكرام ومن أهل الجود والأدب، والكريمُ لا ينادمُ إلا أشباهه. ويوصلنا إلى أن الطبقة التي كان ينادمها أبو نواس هم من أشراف الناس لا من أسافلهم، وما كانوا هم أيضاً يقبلون بأبي نواسٍ أن ينادمهم لو لم يكن شريفاً مثلهم:

تُعاتِبُني على شُرْبِ اصْطِباحِ،

ووَصْلِ الليْلِ من فلَقِ الصّباحِ

و ما عَلمَتْ بأنّي أرْيحيّ،

أحبّ منَ النّدامى ذا ارْتِياحِ

فربّ صَحابة ٍ بِيضٍ، كِرَامٍ،

بَهالِيلٍ، غَطارِفَة، صِباحِ

صرَفتُ مطِيّهمْ حيْرَى، طِلاحاً،

وقد سُدّتْ أسالِيبُ الرّياحِ

إلى حاناتِ خمرٍ في كُرُومٍ

مُعَرَّشَة ٍ، مُعَرَّجَة ِ النّواحي

فأقبلَ ربُّها يسْعى إلينا

يُهَنّىء ُ بالفَلاحِ، وبالنّجاحِ

فقلتُ : الخمرَ‍ قال: نعمْ وإني

بها لِبَني الكِرَامِ لَذو سَماحِ

إن هذه الصورة التي رسمتها لأبي نواسٍ من خلال النظر في خمرياته لهيَ صورة لا تستقيم في بادئ الأمر مع الصورة المرسومة في أذهان الناس عنه، فهو الفاسق الماجن الذي يلاحق الغلمان من حانةٍ لأخرى، لكننا حين نفصل دائرتي الدين والأخلاق عن بعضهما فإن الصورتين تستقيمان لأنهما لا تنفيان بعضهما كما ينفي الضدُّ الضدَّ. لا يعني هذا أن كل صفاتِ أبي نواسٍ الأخلاقية محمودة، فهو بشرٌ كباقي الآخرين يحمل من الصفات ما هو مذموم وما هو محمود، كل ما أقوله أن فسقه لا يمنع من وجود صفاتٍ أخلاقيةٍ محمودةٍ لديه. وحالي في ذلك حال أبي الزعفراني الذي كان يصف أبا الحصاني على لسان (حسينوه) فيقول: “كان كلب ابن ستعش كلب لكنه كريم”!.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×