“التوف” و “الفُقّاح” يبشران ببداية فصل الربيع "المرابْعين المدرْزَهْ" تُحرك نشاط فلاحي القطيف تحضيراً لمحاصيل الصيف

الرمضان: شهر مارس متقلب.. وما زلنا في فترة تخلّق الضباب

كتب: مُحرّر صُبرة

بدأت بوادر فصل الربيع تظهر في ريف القطيف، ببدء نضوج ثمر التوت المعروف محلياً بـ “التوف” أو “التكّي”، وبروز أزهار “الفُقّاح” في شجر الإترجّ والليمون، وأزهار المنجا. فيما يبذل الفلّاحون نشاطهم لإنجاز أعمال تلقيح النخيل “التنبيت”، وغرس الفسائل، وزراعة بعض الخضار الصيفية، أمثال “البامية”، والقثّاء “الطروح”، والبطّيخ. وتُعرف هذه الفترة من السنة بـ “المرابْعين المدرْزة”، وهو تعبير محلّي يعني الإزهار في النخيل وبعض الأشجار.

الفلكي سلمان رمضان

وطبقاً لما ذكره الفلكي سلمان الرمضان، في بيانه أمس، أن الأيام الأربعة من شهر مارس تُسمى “الحسوم”، مضيفاً أن شهر مارس “أول أشهر الربيع ويتميز بالتقلبات الجوية بسبب اختلاف قيم الضغط وتقلب اتجاه الرياح”. وقال “قد تتوقف الحالة المطرية مؤقتاً خلال الأسبوع المقبل مالم تكن هناك تطورات، وتصبح الرياح شمالية بسرعات اعتيادية غالبا فيعود الشعور بالبرد خاصة ليلاً وفي ساعات الصباح المبكر مع اعتدال عموما بالنهار”. وقال “ما زلنا في فترة تخلق الضباب”.

 

الربيع هو الصيف…!

تاريخياً؛ لم يكن لدى عرب قلب الجزيرة العربية فصلٌ اسمه “الربيع” على التحديد الذي نعرفه اليوم. الربيع العربيّ القديم هو الخريف الآن. “ومنهم من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار ـ وهو الخريف ـ الربيعَ الأَولَ، ويُسمّي الفصل الذي يتلو الشتاء وتأْتي فيه الكَمْأَة والنَّوْرُ الربيعَ الثاني، وكلهم مُجْمِعون على أَنّ الخريف هو الربيع”. [لسان العرب: ربع].

وفصل الربيع المحدّد، راهناً، بين مارس آذار ويونيو حزيران؛ كان يحمل اسم “الصيف”، والصيف كان يحمل اسم “القيظ”. والفصل الوحيد الذي لم يتغيّر اسمه ولا موقعه هو فصل الشتاء. وقد وقعت هذه الانزياحات بعد اختلاط العرب بالفرس في العراق، “قال أَبو يحيى: وربيع أَهل العِراق موافق لربيع الفرس، وهو الذي يكون بعد الشتاء، وهو زمان الوَرْد وهو أَعدل الأَزمنة”. [المصدر السابق].

وقال الأزهري “الصيف عند العرب الفصل الذي تسميه عوامُّ الناس بالعراق وخُراسان الربيعَ، وهي ثلاثة أَشهر، والفَصْل الذي يَليه عند العرب القَيْظ”.

الربيع العربيُّ القديم مرتبط بالكلأ والمطر في نهاية الصيف، فيما الربيع الفارسي مرتبطٌ بالإزهار في نهاية الشتاء. ولابن منظورٌ تحقيقٌ جديرٌ بالملاحظة، حين نسب تغيير اسم فصلي “الربيع” و “الخريف” إلى من وصفهم بـ “العامة”. وهذا يُشير إلى أن الانزياح بدأ من عامة الناس، قبل أن يستقرّ على النحو الذي نعرفه الآن.

إذن؛ فإن تذمّرنا المستمرّ من انعدام وجود فصل “الربيع” لدينا، في السعودية، له ما يُبرّره مناخياً وجغرافياً. فحتى أسلافنا، عرب الجزيرة، لم يروا الربيع الطلق الذي رآه البحتري في العراق:

أتاك الربيعُ الطلقُ يختال ضاحكاً

من الحسن، حتى كان أن يتبسّما..!

[الديوان: 868]

ولا ربيع صفيّ الدين الحلّي:

فاصرف همومك بالربيع وفضله

إن الربيع هو الشبابُ الثاني..!

[الديوان: 99]

وسُكّان الجزء الشرقي السعودي، حاضرة وبادية، مثل عرب قلب الجزيرة الأوائل، لم يكونوا يعرفون الربيع، إلا عبر الفهم العربيّ القديم. أي هو الاخضرارُ الذي يتلو جفاف الصيف، والإمراعُ الذي تسرحُ فيه البهائم. وعلى أنّهم استخدموا المثل السائر “اصبر/ انطرْ يا حمار لين يجيك الربيع”؛ فإن سير هذا المثل، في ريفَي الأحساء والقطيف تحديداً، كان استعارةً من بيئة غير بيئتهم، وإلا فإن حميرهم وسائر بهائمهم في نعمة طيلة العام..!

القطيفيون، ومعهم سكان الشطر الشرقي السعودي، عرفوا فصلين اثنين لا غير في السنة. الشتاء والقيظ (الِشتَاْ والـگَيْضْ). وبحكم حاجتهم إلى نظامي الزراعة والبحر؛ تذاكروا الأنواء واستعانوا بالأبراج، وأدخلوا مسمّياتٍ من مشاهداتهم لتكون علاماتٍ زمنيةً تُعينهم على تحديد مواقيت أعمال الزراعة والغوص والصيد..!

 توف.. لا توث.. ولا توت

أصالة الفاء.

“التوف” أول فواكه الربيع في الشطر الشرقي السعودي. ينضجُ في مارس آذار. يُسمّى في الأحساء “توث” و “توت” [الدوغان: 31]. لكن القطيفيين يسمّونه “توفْ”، بالفاء. وليس عليهم جُناحٌ في هذه التسمية. ذلك أن ثمة سببين لسانيين وجيهين: أولهما أن أصل الكلمة المعرّبة عن الفارسية لم يرد بـ “التاء”، بل بـ “الثاء”. أما ثاني الأسباب؛ فهو أن إبدال الثاء فاءً إجراءٌ لغويٌّ أصيلٌ ومعمولٌ به في ألسنة بعض أسلافنا العرب الأقحاح..!

 أصل الكلمة

أخذ العربُ اسم الفاكهة عن الفرس الذين كانوا يسمونه “توث” بالثاء. ثمّ عربوا الكلمة، واستعملوها على شكلها الصوتيّ الفارسيّ.. وأنشد محبوب بن أَبي العَشنَّطِ النَهْشَلِيِّ:

لَرَوْضَةٌ من رياضِ الحَزْنِ أَوْ طَرَفٌ

من القُرَيَّةِ جَرْدٌ غيرُ مَحْروثِ

لِلنَّوْرِ فيه إِذا مَجَّ النَّدَى أَرَجٌ

يَشْفي الصُّداعَ ويُنْقي كلَّ مَمْغُوثِ

أَحْلى وأَشْهَى لِعينيْ إِن مَررتُ به

مِنْ كَرْخِ بَغْدَادَ ذي الرُّمَّانِ والتُّوثِ

ونقل ابن منظور عن ابن بري أن “أبا حنيفة الدينوري ذكر أَنه بالثاء”؛ وقال “حُكي عن بعض النحويين أَيضاً، أَنه بالثاء. قال أَبو حنيفة: ولم يُسمع في الشعر إِلاّ بالثاء”. [لسان العرب: توث]

وقبل ذلك كله؛ بدأ ابن منظور حديثه عن مادة “توت” بقوله “التُّوتُ: الفِرْصادُ، واحدته تُوتَةٌ، بالتاء المثناة، ولا تقل التُّوثُ، بالثاء”..! [المصدر السابق: توت]

ثم تحدث عن مادة “توث”؛ فأشار إلى الأولى فقال “التُّوثُ: الفِرْصادُ، واحدتُه تُوثةٌ، وقد تقدّم بتاءَين”.

ومعه صاحب [الصحاح في اللغة: توت] الذي يقول “التوتُ: الفِرْصاد، ث، ولا تقل التُوث”.

وكذلك [القاموس المحيط: التوث] و [مقاييس اللغة: توت].

وإصرار اللغويين على “التاء” بدلاً عن “الثاء” الواردة في الأصيل يدلُّ على تحوّلٍ صوتيٍّ فرض نفسه فرضاً بعد تعريب الكلمة. ويدلّ على ذلك ما قاله أبو حاتم السيسجتانيّ في “كتاب النخلة” قبلهم إن “التوت اسمٌ فارسي، أعربتْه العربُ، فجعلوا الثاء تاءً”. [كتاب النخلة: السجستاني] 

الثاء فاء..!

وهذا يعني أن أصل الكلمة “توث”، وقد استخدمه الشعراء بالثاء (طبقاً لأبي حنيفة الدينوري). لكنّ الناس صاروا ينطقون الكلمة بتاءين بينهما واو “توت”. لكنّ سكان القطيف تمسّكوا بحروف الكلمة الأصل “ت و ث”. ولأن جزءاً عريضاً منهم ينطقون حرف الثاء فاءً، تحولت كلمة “توث” إلى “توفْ”..!

وإبدال الثاءِ فاءً، والعكس أيضاً، من ظواهر اللغوية المعروفة، وينقل ابن منظور عن ابن جنّي قوله “ذهب بعض أَهل التفسير في قوله عز وجل: {وفُومِها وعَدَسِها}، إلى أنه أراد الثُّوم، فالفاء على هذا عنده بدل من الثاء”. وجاء في “الصحاح في اللغة” أن “ثومها” وردت بدلاً عن “فومها” في إحدى القراءات*.

وقد رصد اللغويون العرب هذه الظاهرة، أمثال ابن جني، وابن الفرّاء، ومصنّفي المعاجم. وهي ظاهرة استمرّت حتى عهدٍ قريب في مناطق خليجية كثيرة، أهمها البحرين والقطيف وأبو ظبي، فضلاً عن وجودها في بعض المناطق اليمنية، طبقاً لما رصده الباحثان: البحريني حسين محمد الجمري والإماراتي أحمد محمد عبيد.

هذه الظاهرة حولت كثيراً من الكلمات إلى شكل مختلف في النطق: ثلج: فلج، اثنين: افنين، ثلاثه: فلافه، ثار: فار، ثابت: فابت.. إلخ

توث، توت، توف..!

وزبدة مخاض هذا كله؛ هو أن استخدام كلمة “التوف” بدلاً عن “التوث” صحيحٌ.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×