[مقال] محمد الحميدي: شاعر فارغ من المعنى
من إفرازات عالم السوشل ميديا والانفتاح على الآخر؛ وصول عدد كبير من الرسائل الخاصة والعامة، وهنا لن أتحدث عن خصوصية بين فردين، بل سأتناول الشاعر كنموذج عام، إيمانا بدوره “العظيم” الذي يؤديه للغة والمجتمع والعالم.
رسائل التهاني والتحايا باتت فنا شائعا وأقرب للمألوف، تأتي من جميع الأشخاص؛ المتعلمين وغير المتعلمين على حد سواء، وتحتوي – غالبا – كلمات قصيرة أو عبارات جميلة منمقة أو أشعارا تؤرخ المناسبة اليومية (الجمعة أو العيد) أو الزمنية (صباحا أو مساء).
إذا ما استثنينا الرسائل الاعتيادية والمصحوبة بالكلام المنمق والعبارات اللطيفة والإبداعية؛ سنتوحد أمام الشعر أو أمام الأبيات القليلة والتي لن تتجاوز البيتين والثلاثة وإلا فقدت الرسالة معناها، فمن شروط أدب التهنئة والتحية القصر والإيجاز.
نحن الآن أمام هذا الأدب الوافد، نتواجه معه ليس على سبيل الذم أو الإقصاء ولا حتى على سبيل المحاكمة وإبراز العيوب، إنما على سبيل اكتشاف الميزات التي يحتويها ومدى الدور الذي يلعبه خدمة للغة والمجتمع، وبالتالي اعتباره تطورا فنيا طبيعيا.
يتناسب شعر التحية مع متطلبات السوشل ميديا من ناحية التزامه بخصائص الكتابة السريعة على الشاشة فيأتي قصيرا لا يتجاوز الأبيات الثلاثة، ويأتي موجزا لا يتناول إلا موضوعا واحدا ضمن إطار محدد لا يجوز الخروج عليه بحال من الأحوال.
ويشترط فيه أيضا الوضوح كثيمة أساسية من ثيمات الكتابة، فالقارئ لن يهتم بإعمال العقل والتفكير بحثا عن المعنى المخبوء بين طيات الكلمات، فذلك يخالف شرطا من شروط استقبال هذا النوع من الفنون.
ثلاث خصائص أساسية نحصيها لهذا النوع من الشعر وهي: 1)القصر. 2) الإيجاز. 3) الوضوح. وهي سمات إيجابية في حد ذاتها، ومرغوبة طالما يتواجد القارئ داخل السوشل ميديا وتناسب سرعة العصر والدفق الكبير للمعلومات والبيانات الواردة.
الآن لننتقل إلى تأثير هذه الخصائص على الشعر ذاته؛ بوصفه فنا، وبالتالي التأثير على القارئ؛ باعتباره متلقيا، للخروج باستنتاجات تساعد على فهم كيفية حدوث التأثيرات سواء داخل الوعي أو اللاوعي، أبرز التأثيرات:
1/ غياب الكثافة: الشعر فن قائم على التكثيف اللغوي، فالمعنى لا يتم تحديده بدقة متناهية وإلا فقد ميزة من ميزاته الهامة وهي دلالته على الكثير من المعاني عبر الكلمات القليلة، بينما شعر التحية يستلزم الضد؛ أي الكتابة الدقيقة الواضحة وإلا لن تكون مقبولة من القارئ.
2/ غياب الترميز: لا تتسع الأبيات القليلة لاستعمال الرمز وتدويره وإلا ستتمدد وتتحول لقصيدة وهو ما يخالف خصائص فنون السوشل ميديا، ولذا يستبدل الشاعر الرمز بكلمة دالة على المعنى بدقة. (الرمز: يحيل على معنى آخر لا يتواجد ضمن القصيدة).
3/ غياب المعنى الدال: تؤدي سمات القصر والوضوح إلى جعل الأبيات خاصة ومحددة بمعنى التهنئة أو التحية ولا تخرج عنهما، وبهذا تفقد مزية من مزايا القصيدة وهي المعنى الدال على معنىً إنساني وهمٍّ من هموم الوجود، وبذلك تكون كلاما اعتياديا كُتب في قالب شعري!
4/ فقدان الإحساس: كثرة الرسائل وتواتر ورودها وتركيزها على لون محدد أو في وقت موحد؛ كرسائل الصباح مثلا، تجعل القارئ فاقدا للإحساس بالجمال، فلا يهتم باستبطان الأبيات أو البحث عن الدلالات، بل ينصب اهتمامه على القراءة السريعة التي هي من ميزات متلقي السوشل ميديا.
5/ عدم اهتمام القارئ: نتيجة لكثرة رسائل التحيات يتولد لدى القارئ نوع من الملل وعدم الرغبة في متابعة القراءة وربما يصل إلى مرحلة عدم الاهتمام بالقراءة أو اللامبالاة، فهذا الفن خاضع لمنطق “السوق”؛ كلما زاد العرض فقد اهتمام الناس ومتابعتهم.
6/ السلبية في التلقي: الكثرة تنتج خصيصة غاية في الأهمية، فزيادة المعروض، وكثرة الأشعار التي تأتي على نمط واحد، تقود إلى السلبية في الاستقبال، والنفور من هذا النوع؛ بسبب الشعور بالامتلاء، حيث تتحول الرسائل إلى “فائض عن الحاجة”، وهي خصيصة خطيرة ومدمرة للفن الشعري.
7/ رسم صورة ذهنية تقلل من شأن الشعر: عالم السوشل ميديا يلقي بظلاله على الفن الشعري عبر فرض شروطه الكتابية، وحين يستجيب الشعر لهذه الشروط، تتكون في ذهن المتلقي صورة، تبتعد به عن المستوى العالي المرسوم مسبقا، فتعتبره كبقية أنواع الكلام؛ مجرد ثرثرة فارغة ولا معنى لها، خصوصا حين لا تقدم جديدا.
8/ غياب الفنية: للشعر شروطه كبقية الأنواع، فخضوعه لمنطق السوق “ما يطلبه المتلقي”، تدفعه نحو التنازل عن بعض الشروط أو كلها، وبهذا سيفقد الكثير من فنياته المؤثرة والتي يعتمد عليها في الانبناء، وهنا سنصل إلى مرحلة فقدان الفنية وغيابها، ويصبح مثله مثل الكلام العادي.
الاستنتاجات الثمانية سلبية ومؤثرة على 1)الشعر. 2) الشاعر. 3) المتلقي. السوشل ميديا لا تقبل الكتابة إلا عبر شروط محددة سلفا (القصر والإيجاز والوضوح)، وأي خروج عليها سيقابل بالنبذ وإلغاء المكتوب وعدم إيلائه أهمية، هنا ندرك مأزق الشاعر.
أيها الشاعر “العظيم”، المأزق صعب، والخروج محفوف بالمخاطرة، الموهبة داخلك لا داخل المتلقي، وحدك من يجازف، ووحدك من يتحمل الألم، أما عالم السوشل ميديا فجوقة من المتفرجين، إذا لم تصنع المعنى بنفسك، فلن يصنعه الآخر.