مارك ستراند في “عسل الغياب”: مرآة ينام فيها الألم
ترجمة: عبدالوهاب أبو زيد |
قراءة: محمد الدميني* |
كم يصف هذا العنوان “عسل الغياب” مهمة مارك ستراند الشعرية في العالم، إنه يعيش في الغياب لكنه يستلذ بكل أطايبه، ومخفياته، وأحلامه على مدى خمسة عقود صنع خلالها ضفة مزدهرة للقصيدة الأمريكية الحديثة، بعيداً عن طغيان الآلة والمال والمصنع واللهاث والقلق الذي يظلل تلك القارة الأمريكية الكبرى، وليس سهلاً لشاعر أن ينجو من كل ذلك الصخب ويكتب قصائد هامسة ومراثٍ حزينة في مقعد خارج المسرح الصاخب. وستراند لا يستعجل الفهم فهو في حواره مع “باريس ريفيو” يشير إلى أنه يكتب قصائده لا ليفهمها القارئ دفعة واحدة بل أن يصمد لتتكشّف معانيها عبر برهات من الزمن.
هذه المجموعة المختارة التي سهر عليها صديقنا الشاعر والمترجم عبد الوهاب أبو زيد بشغف واستبطان جديرين بالاقتداء، وأصدرتها دار “ميارة” في القيروان- تونس، تضعنا أمام شعرية متأملة، يراقب عبرها صدى الناس والأشياء والذكريات وما يبقونه في ضمير الشاعر وفي شرايينه وعلى بشرته، وهو يقول أن في القصيدة رغم حضورها المسرحي أحياناً رابطاً ما مع الموت، فحين ترثي صديقاً أو حياة أو حبّاً ما فإنك ستجد نفسك بإزاء الموت، وستراند لا ينصاع للموت، ولكنه يمتحن العلاقة به عبر الكلمات والخيالات التي تبقي الشعر كامناً ونابضاً ومتنقلاً عبر الفصول.
موضوعات ستراند الشعرية ليست من العيار الثقيل، بل من الكائنات المشاعة، من الأحداث اليومية، من المناسبات الدارجة بل ومن أعضاء أجسادنا وهو حين يقترب منها، فإنه يجردها من حالتها المستهلكة ويشحن في مفاصلها حياة جديدة. في قصيدة “اليد القذرة” يهجو يده فيما يرمز إلى كل يدٍ سوداء تطوّف في الكيانات الاجتماعية وتتعدد خطاياها..
” آه .. كم من الليالي/ في أعماق المنزل/ غسلتُ تلك اليد/ كم فركْتها وصقلتها/ وحلمت بأن تتحول/ إلى ألماس أو كريستال/ أو حتى في آخر المطاف/ إلى يدٍ عادية بيضاء/ يد إنسان نظيفة/ يكون بوسعك أن تصافحها/ أو تقبّلها أو تمسك بها.”
لديه مرثيات كثيرة، وقد توقفت كثيراً أمام مرثيته لأبيه. في هذه القصيدة لا بكاء ولا فجائع أو تضخيم لصورة الأب الذي يغيب. إنه يتحدث عن الأشياء التي ستفتقد حضوره، القمر المتكئ على الهضاب، وضوء الشتاء الأخضر، والماء والعتمة..” النوارس كانت تحدق/ والسنوات والساعات التي لن تعثر عليك/ كانت تدور في معاصم الآخرين”، يمضي الشاعر إلى الأروقة والشوارع والموانئ والأرياف التي عاش فيها أبيه ليصطفي منها صور الأب ووقع أقدامه و”كلماته التي تطفو مثل أوراق الشجر في هواء ضالٍ..”
مارك ستراند في “عسل الغياب” لا يبدو أنه يتقصد اللغة بكثافاتها ورصانتها بقدر ما يمنح جملته الشعرية أن تتبسّط وأن لا تشطّ عن حيّزها اليومي ولهذا فهي تستدعي المهمش واللامرئي وتمنحه فرصة البقاء في قلب المعنى الشعري، وهو يوضح أن بعض الشعراء يتأثرون بأمهاتهم أكثر من تأثراتهم بشعراء كبار، كما أنه يهجو بقسوة معلمي المدارس الذين لا يفهمون من الشعر سوى أنه لعبة لغوية تشبه الكلمات المتقاطعة. ورغم أن ستراند في قصيدته الأشهر (كتيّب الشعر الجديد) يدخل في لعبة التعليمات الأدبية إلا أنه يقاربها شعرياً فينجو القارئ من ألاعيب العقل: ” إذا ما عاش رجل ما مع قصيدة/ فسوف يموت وحيداً.. إذا ما تباهى رجل ما بقصائده/ فسوف يحبه الحمقى”.
هذه هي إحدى أجمل المختارات لشاعرٍ صافٍ يضعنا في قلب القصيدة الأمريكية المعاصرة، ويقرّبنا من لغتها وأساليبها ومناخاتها، وربما لا نعرف أن جائزة بولتيرز للشعر قد حجبت عنه في ١٩٧٩م لأنه يكتب قصيدة نثر غير مفهومة لأعضاء اللجنة، لكن العالم يكسب اليوم شعرية جديدة يعدّ ستراند أحد رموزها الكبار.
——–
* شاعر سعودي، والقراءة من صفحته الشخصية، فيس بوك.