[كاتب وكتاب] أمين صالح: اللغة تخون رفيقها باستمرار.. خيانة مبجلة كل كائن، كل شيء، كل موقع.. يصير كونيًا حين يدخل النص

هادي رسول

” الشاعر ساردًا ” أمين صالح ، الروائي المتأمل في فضاء الذات، و تجلياتها في الواقع، نسبر معه كتابه التأملي (هندسة أقل خرائط أقل)، بمساورات الأسئلة و علامات الاستفهام.

إبداع اللغة

ــ تقول: “نحن لا نبدع باللغة فحسب، إنها أحيانًا تبدع من خلالنا”. كيف للغة أن تبدع من خلال الكاتب؟

= حين نستحضر المفردات التي سوف تسعفنا في التعبير، تفرض اللغة نفسها عبر تراكيب و تشبيهات و تحاورات لا تخطر على بال.

خيانة

ــ تقول أيضًا: اللغة صديقة المخيلة. هل ممكن أن تخون هذه الصديقة؟

= إنها تخون رفيقها باستمرار … لكنها الخيانة المبجلة.

يحدث كثيرًا أن يبتكر الكاتب صورة ما، و عندما تُقرأ فيما بعد، تحل محلها صورة أخرى.. ربما مختلفة تمامًا عن الأصل.

صورتها الخاصة

ــ لماذا، في رأيك؟

= ذلك لأن اللغة هنا قد استطاعت بذاتها أن تخلق في ذهن القارئ -صورتها الخاصة-، أن تخلق معاني و إيحاءات متعددة.

اتصال لاهب

ــ تقول: “الكتابة في جوهرها فعل جنس “، و كأنما ترى في الكتابة إغراءات الجسد، أو لعلّك تراها فعلًا جسديًا؟

= إنها ولوج شبِق، شهواني، عنيف، داخل كينونة البشر و الأشياء و الأمكنة… داخل اللغة أيضًا.

إنها التحام حميمي، حتى آخر عضلة و عصب، بالمرئي و اللامرئي، بالمحسوس و الخفي، بالظاهر و الكامن.

و النص ثمرة هذا الاتصال اللاهب.

عرضة للانتهاك

ــ تتحدث بما يشبه التأمّل عن العلاقة بين الرائي و المرئي، و أن النظرات لا تخلو من الارتباك و الالتباس، و مشوبة بالحذر و التوترات؟

= من يحدّق يمارس سلطة و هيمنة على المرئي.

عندما تكون في بؤرة التحديق تشعر بالقلق و الارتباك، و بأنك بلا حصانة أو دفاع، و عرضة للانتهاك و الاستباحة.

ذلك لأنك تتحوّل -بفعل التحديق- من كائن خفي و مستتر، إلى مشهد عام مكشوف و مباح.. تصبح في محور الفضول و الفحص و الاستجواب.

عالم خاص

ــ إذا كانت العين المبصرة رافد مهم لتغذية المخيلة، بما تحفظه في الذاكرة من مشاهد و صور هذا العالم، فما هي وسيلة المكفوف لتغذية مخيلته، و هو لم يرَ صورة واحدة في حياته؟

= المكفوف منذ الولادة يخترع لنفسه عالمًا خاصًا به، يشيّده من عالم المخيلة، و ما تمليه الحواس الأخرى من إشارات و علامات و رموز. و في هذا العالم يستقر و ينمو، و منه يستمد نظرته إلى العالم الواقعي الذي انفصل عنه بصريًا، لكن اتصل به غريزيًا. إنه يعيش عالمين في واقت واحد: أحدهما يراه عبر مخيلته، و الآخر يدركه عبر الحواس.

نوستالوجيا

ــ تتغير الحياة بصورة سريعة مضطردة، تتطور بصورة هائلة، مع ذلك يظل الحنين إلى الماضي حالة يخضع لها الإنسان، و تلحّ عليه، و تراوده من حيث لا يعلم؟

= الحنين إلى الماضي هو حنين إلى ما هو مفقود في الحاضر. الأشياء التي كنت تعيشها و تختبرها و تراها، و لم تعد موجودة أو يصعب استعادتها. إنه، بمعنى ما، إحساس بعدم التناغم و الانسجام مع أحد مظاهر الحاضر.

النوستالوجيا ضرورية إلى حد ما، لكنها مؤلمة، لأنها تنبع-في أغلب الأحيان- من موقف أو وضع أو شعور مؤلم.

عبور مؤقت

ــ لكن ربما تعبّر النوستالوجيا عن حالة راحة و طمأنينة أيضًا؟

= إنها عبور مؤقت إلى إقليم يجد فيه الراحل إليه نوعًا من الطمأنينة و الراحة.. غير أنها طمأنينة زائلة.

نزوع رومانسي

ــ دائمًا ما نتغنى بالماضي الجميل، و نستحضره للواقع كنموذج للحالة الطبيعية التي ينبغي أن نكون فيها؟

= الماضي دائمًا يجمّل نفسه لكي يغويك، ربما لهذا السبب تراه أجمل. و لأن الحنين إلى الماضي يتسم بنزوع رومانسي فإنه يبدو أجمل. إنك لا ترى الجوانب المظلمة، الكئيبة، الموحشة، بل ترى ما تريد أن تراه: الجوانب المضيئة، المبهجة، المنعشة روحيًا.

الحارة

ــ في روايتك رهائن الغيب، كتبت عن الحياة في الحارة القديمة، الحارة ببيئتها البسيطة و علاقاتها العفوية و الحميمية. ماذا تمثل لك الحارة؟

=قديمًا كانت الحارة، هي البؤرة، الرحم، الحضن.

هي الوطن الصغير، جغرافيا القرابة و الصداقة و الألفة، و أيضًا العداوات و المشاحنات، لكنها جغرافيا الذاكرة والنسيان من وجهة نظر الحاضر.

الفنانون و الكتاب الذين خرجوا من أحشاء تلك الحارات، لا يزال تعاملهم مع تلك المواقع القاطنة في لاوعي الجسد، في ماضي الروح، قائمة على ثنائية الذاكرة و النسيان.

حقيقة أخرى

ــ الحارة بوصفها مكان، هل تحافظ على حقيقتها في النص؟

= كل شيء يفقد طبيعته و حقيقته و صفته الواقعية.. حالما يدخل النص. عندئذٍ يكتسب حقيقة أخرى، و وظيفة أخرى.

إنها تصبح كونية. كل كائن، كل شيء، كل موقع.. يصير كونيًا حين يدخل النص.

المدن الغريبة

ــ في السفر، تجابهك المدن الغريبة بغموضها، هي فرصة للاستكشاف و ربما شيء آخر لديك؟

= المدينة شَرَك، تُبرز مفاتنها لتغويَ المسافر. و لا يتحقق الإغواء إلا بفقدان الذات. المسافر بلا حماية، بلا دفاع، مليء دائمًا بالشك و التوجس و الارتباك. إنه زائر غير حصين، مباح للمباغتات، مهيّأ لاستقبال كل أنواع المفاجآت، مفتوح على تجارب لا يمكن أن يحوزها أو يتلقاها إلا من خلال هذا الانغمار في المدن المجهولة. آنذاك يشعر أنه غير متحكمًا في حياته، بأنه خاضع لقدر المدينة، و مجابهات لا تنتهي لسيل من المصادفات.

لحظة متجمّدة

ــ أنت مهتم بالصورة و لديك دراسات في السينما، لكنك تعبّر عن الكاميرا بأنها تعتقل، تعتقل اللحظة أو الشخص؟

=نعم. الصورة عبارة عن لحظة متجمدة من حياة أو تاريخ ماهو مرئي، إنها تثبّت الواقع، و تختزل الكائنات الحية، إلى أشياء ساكنة.

تقترح النقيضين

ــ لكنها تخّلد اللحظة و تجعلها حاضرة و دائمة باستمرار؟

=إنها تعزل و تخلّد في آن.

تشير باستمرار إلى الماضي، تذكرنا بالزمن الذي انقضى و تلاشى. هي بالأحرى تقترح النقيضين: الإشارة إلى حياة مضت بلا رجعة، وفي الوقت ذاته تعرض إمكانية استحضار تلك الحياة -المرة تلو الأخرى- في الذاكرة.

إعادة إنتاج

ــ نقول عن النص أنه إعادة إنتاج للواقع، هل نستطيع أن نقول ذلك عن الصورة؟

= نعم، الصورة إعادة إنتاج آلي للواقع أو للموضوع. إنها لا تستطيع أن تنقل الحدث المتدفق و لكن شظايا منه.

إطار

ــ هل يمكن أن نقول عن الرسام و المصوّر أنهما متشابهان في إعادة إنتاج الواقع؟

= إذا كان الرسام ينظر إلى المشهد دون أن يحده إطار، فإن المصوّر ينظر عبر الإطار. الإطار هو الذي يحد رؤيته، و من خلاله يعي كل ما هو خارجي، و يصور فقط الجزء المرئي.

كولاج

ــ متى يمكن أن يكون المصوّر فنانًا؟

= المصور الفنان لا يكتفي بعكس الواقع، بل يتلاعب به، من خلال تكبير الصورة، الظل، اللون، التكوين، إلى جانب تحطيم المظهر الواقعي باستخدام الكولاج.. كل هذا في سبيل إثراء مجاله الفني، و تقديم رؤية فلسفية و جمالية تنتزع هذا الفن من إطاره العادي، و تميّزه عن الاتجاه الحِرَفي.

السيرة الذاتية

ــ قلت: “كل شيء يفقد طبيعته و حقيقته و صفته الواقعية.. حالما يدخل النص” لكن ماذا عن أعمال السيرة الذاتية، سواء أكانت مكتوبة كنص سردي، أو مصورة كعمل فني مرئي؟

= الكثير من الأعمال الفنية و الأدبية التي تتعرض للسيرة الذاتية، تبدو و كأنها إعادة كتابة لتاريخ الشخصية ضمن بناء واقعي و أمين، وغالبًا نصادف لجوءًا إلى إضفاء طابع رومانسي، أو بُعد بطولي أسطوري على السيرة الذاتية، يصل إلى حد التمجيد و التبجيل.

تزييف

ــ هل تعتبره تزييف للسيرة الذاتية؟

= نعم، يحدث تزييف للشخصية و الوقائع، و تختلط الأكاذيب بالحقائق. ما يُعد مشينًا و مستهجنًا في حياة الشخصية و سلوكها يتم استبعاده فورًا.

استثناء

ــ لكن، لابد من استثناء لبعض الأعمال؟

= ثمة محاولات قليلة ترغم القارئ أو المتفرج على إعادة النظر في طبيعة (السيرة الذاتية) كنوع أدبي و فني. محاولات تسعى إلى النفاذ إلى روح الشخصية المركبة و جوهرها.

سرّي و غامض

ــ تقول: “الفن يجعلنا نرى الأشياء بعين مختلفة، عين مليئة بالدهشة”، ما توصيفك للفن الذي يجعلنا نراه بهذه العين؟

= الفن في جوهره، يتصل بما هو سرّي و غامض، باللامرئي و غير المُدرَك.

الفن بحث دائم في شؤون الذات و الوجود، ليس على المستوى العلمي و المنطقي، بل على المستوى الحسي و الجمالي و الخارق.

بذرة

ــ ما البذرة التي ينشأ منها أي نص أدبي أو عمل فني؟

= الفكرة، إنها توجد في الداخل، في ذات الفنان، متخذة شكل جنين. و غالبًا ما تُجهض الفكرة عندما نتكلم عنها و نعلن عن وجودها قبل أن يتحقق لها الوجود، و أية ولادة قسرية لا تنتج إلا شكلًا مشوّهًا.

القراءة

ــ تقول: “القراءة عملية إبداعية”، ما الابداع الذي يتجلى في القراءة كفعل و سلوك؟

= يشارك القارئ في الخلق، و ينتج نصًا آخر خاصًا به وحده.

مهمة الكاتب

ــ ما هي مسؤولية الكاتب في ذلك؟

= ليست مهمة الكاتب أن يكيّف كتاباته لتتوافق مع مستويات الفهم و الإدراك عند القارئ، إنما عليه أن يكتب ما يحس به، ما يتخيّله، ما تمليه عليه موهبته و ثقافته، و على القارئ أن يستنبط ما يريده، و يستخرج مكتشفاته بحريّة دون وصاية من أحد.

كتابات راهنة

ــ ما تقيمك للكتابات الراهنة وفق هذه الرؤية الفنية التي تتبناها؟

= كثير من الكتابات الراهنة تعاني من الافتقار في الجرأة الفنية، إما بسبب الوعي الناقص بمعنى الفن وماهيته، أو الجهل بما تكتنز به أشكال الكتابة من إمكانيات و احتمالات لا متناهية، و إما بسبب خضوع هذه الإمكانيات لسطوة القارئ و الناقد معًا. الناقد التقليدي، و القارئ المستهلِك الذي يطالب دائمًا بالوضوح، كي يفهم ما يقرأ.

تجربة مشتركة

ــ أنت سارد، روائي، لكن ذهبت لمغامرة الكتابة الشعرية في تجربة “الجواشن” مع قاسم حداد؟

= تجربة ” الجواشن” تشكّل سياقًا منسجمًا مع طموحي التعبيري الذي يذهب إل مغامرة الكتابة. و لأن تجربتنا ترافقت عبر الزمن و المسافة الفنية و الرؤية المتقاربة، فقد تحولت إلى كتابة نص مشترك مشحون بالمتعة و المكتشفات الخاصة.

اللامعرفة

ــ كلمة أخيرة؟

= إذا أعلنت المعرفة فلن تعرف.

أعلن اللامعرفة لتعرف.

الجهل منبع الدهشة و الفضول و السؤال.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×