معجبو جاسم الصحيح يرفضون اتهامه بـ “الزندقة” ويبرّؤنه بـ “المجاز”

القطيف: أمل سعيد
قبل يومين، أثار الدكتور رصين الصالح جدلاً واسعاً على صفحته في “فيس بوك” حين كتب منشوراً ينتقد فيه بيتين من قصيدة الشاعر جاسم الصحيح، ويتمنى على أحد ممن يعرفه أن يوصل له الرسالة.
لم يكن نقد الدكتور متجهاً إلى بنية النص أو صوره الشعرية ولا مهتماً بالأساليب البلاغية والرؤية الفكرية، من زاوية فنية أو جمالية، بل جاء معبرًا عن موقف ديني واضح، رأى في الأبيات تجاوزاً للقيم الأخلاقية والضوابط الشرعية، معتبراً أن الصورة التي بناها الشاعر تمس الذات الإلهية، ورأى في البيتين الذين اقتبسهما تشبيها للمرأة بالله، تعالى الله، ومن هنا، ابتدأ نقاش طويل بين مؤيدين للدكتور، ذهبوا مذهبه وساروا في دربه، وبين منتقدين له ومبررين وشارحين لما قاله الصحيح، كلٌّ يعبّر عن موقفه تجاه العلاقة المعقدة بين النص الإبداعي وحدود المقدّس.
هذا الموقف يعيدنا إلى مشاهد كثيرة من التاريخ الأدبي، فما اليوم إلا وليد الأمس، حيث اتُّهم شعراء كبار بالزندقة أو الإلحاد بسبب جرأة نصوصهم، كـ بشار بن برد الذي قُتل بتهمة الزندقة، والحلاج الذي صُلب بسبب أقوال صوفية والمعري الذي وُصف بالإلحاد، وابن الرومي وغيرهم كثير.
كل هؤلاء لم تكن مشكلتهم في الشعر بحد ذاته، بل في التلقي والتأويل. وهذا ما يتكرر اليوم، وما هذا السجال حول أبيات جاسم الصحيح، إلا فصلا من فصول سبق منها كثير وسيلحق بها كثير، وحيث يلتقي الشعر بالدين، والذائقة الفردية بالمعايير الجمعية، يُطرح من جديد السؤال القديم: ما حدود الشعر؟ وأين يقف حارس العقيدة أمام خيال الشاعر؟
وفيما يلي نستعرض أبرز ما دار من تعليقات وردود بعد منشور الدكتور.
كتب الدكتور رصين بن صالح
“من يعرف الشاعر السعودي جاسم الصحيح، يوصل له هذه الرسالة:
لعلك – في شبابك – كنت مغرورا مفتونا والبنات من حولك سعيدات بتغزلك (الجميل) فيهن.. وهو غزل حقل وفعلا جميل..
ولكنك الآن تجاوزت الستين، وقد قال رسول الله
“أعذر الله إلى امرئ: أخر أجله، حتى بلغه ستين سنة”
والحديث في البخاري،
..
فتب إلى الله من قولك:
زنداكِ ميزانٌ بِثِقْلِهما *** يَزِنُ المَدَارُ الغربَ والشرقَا
لا ترفعي زندًا بِمُفرَدهِ *** كي لا يميلَ الكوكبُ الأشقى
ولا يغرر بك السفهاء ويودف بك الزنادقة أرقّاء الدين ويقنعوك ويضحكوا عليك بقولهم: أن هذا شعر وأدب ورمزية ومجاز وبطيخ؛
لأنك إذا غرغرت وحانت ساعتك،
فإن فكل هذه (التبريرات والتخريجات الباردة)
لن تنفعك عند الله يوم القيامة..
وقبل ذلك، لن تنفعك في قبرك: حين يسألك الملكان عن تشبيهك
للمرأة
برب العزة الذي يمسك الكون بيديه تعالى
أعوذ بالله من كفر الإنسان.. ومن جرأته على رب العزة..
وصدق ربنا إذ يقول {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَه} عبس:17
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} الزمر:67
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فاطر:41
اللهم إن هذا منكر لا نرضاه..
اللهم لا تؤاخذنا بما قال السفهاء منا”
وتابعه في ما قاله كثير من المعلقين منهم زياد العرومي، الذي كتب
”يجب أن تستوعب بأنك قد تكفر بسبب كلمة واحدة فقط، أو عقيدة منحرفة واحدة فقط.
ولا يلزم أن تعرف بأنك قد كفرت!
قد تكفر وتعيش وأنت تظن بأنك مسلم كأي منحرف أو مبتدع أو كافر أصلي ضل سعيه وهو يحسب أنه يحسن صنعا.
وبالمناسبة! لو كفرت فلن يصلك إشعار تحذيري يبين لك بأنك قد كفرت”.
ومثله قال عبدالرحمن بن يحيى آل حسن الصميلي “يا دكتور رصين الجميع يعرف الإجابة وأنت صدحت بالحق وبرأت ذمتك.
في هذين البيتين من الشعر، كلمة “المدار” تُستخدم بمعنى “العالم” أو “الكون” أو “الأرض بما عليها ومن فيها”.
دعنا نحلل البيتين لتوضيح ذلك:
(زنداكِ ميزانٌ بِثِقْلِهما *** يَزِنُ المَدَارُ الغربَ والشرقَا)
هنا، الشاعر يصف ذراعي المرأة (زنديها) بأنهما ميزان، وبثقلهما يزنان “المدار” كله، أي يتحكمان في توازن العالم بأسره من غربه لشرقه.
هذا تشبيه مبالغ فيه للغاية، ينسب للمخلوق (المرأة) قدرة هائلة على التأثير في الكون.
(لا ترفعي زندًا بِمُفرَدهِ *** كي لا يميلَ الكوكبُ الأشقى)
ويواصل الشاعر في هذا البيت المبالغة، فيحذر المرأة من أن ترفع ذراعًا واحدة فقط، خشية أن يختل توازن “الكوكب” (وهو مرادف للمدار هنا، أي الأرض أو الكون) ويميل ويصبح “أشقى” (أي تعيسًا أو غير مستقر).
فكلمة “المدار” في سياق هذين البيتين ليست بمعناها الحرفي كمسار فلكي فحسب، بل هي كناية عن العالم بأكمله، أو الكون، أو ما عليه الأرض من توازن ونظام.
الشاعر يبالغ في وصف تأثير المرأة لدرجة جعلها محور توازن الكون الذي نعيش فيه.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.)
(سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك).
ووافق عزت المخلافي من سبقه في الرأي “أحسنت يا دكتور
قليل من النقاد من يتنبه لمثل هذه الأمور التي تخرج صاحبها عن الملة، بل هناك الأغلبية لا يهمهم هذا الجانب، وإنما همهم الجمال والمتعة في الفن حتى ولو كان ينال من الذات الإلهية أو الدين أو أهله، والله المستعان”.
وتمنى باسل صالح أن تصل الرسالة للشاعر الصحيح فيتوب “جزاك الله على نصحك لمغرور غرر به الشيطان قبل شياطينه من الانس والجان ولعل رسالتك تصل إليه فينتفع بها ويتوب فيكتب في ميزان حسانتك استغفر الله العظيم من كل ذنب واتوب اليه اللهم لاتاخذنا بما فعل ويفعل السفهاء منا.آمين”.

وجاءه الرد من الضفة الأخرى فكتب محمد مصلح المليكي، الذي أبدى احتراما للدكتور ومرونة كبيرة في التعاطي مع المنشور “حضرة الدكتور الكريم،
نُقدّر غيرتكم على الدين، وحرصكم على حدود العقيدة، وهذا أمر لا يُلام فيه من يحمل همّ المسؤولية أمام الله.
لكن، اسمح لي بلطف أن أختلف معكم في التأويل.
البيتان:
زِنداكِ ميزانٌ بثِقْلِهِما
يَزِنُ المَدَارَ الغربَ والشرقَا
لا تَرفَعي زِندًا بمُفردِهِ
كَي لا يَميلَ الكَوكَبُ الأَشقى
ليسا تصريحًا بأن المرأة تُمسك الكون، ولا تشبيهًا لها بالله جلّ جلاله — معاذ الله — بل هما مجازٌ بلاغيّ شائع، كما في قول العرب:
“فلانة شمسٌ لا تغيب”
أو: “دمعُها أغرق العالم”
ولا أحد يُكفّر قائل هذه التعبيرات.
الشاعر جاسم الصحيح معروف باستخدامه الصورة الشعرية المركبة، وبيته لا يعني أن المرأة تُدير الكون، بل أن العلاقة المتوازنة بين المحب والمحبوبة هي التي تحفظ التوازن في عالمهما الخاص، كما توازن الكفتان ميزانًا صغيرًا لا يُقاس بالله سبحانه.
نحن أمةٌ تفخر ببلاغتها، والقرآن نفسه مليء بالصور المجازية:
“واخفض لهما جناح الذل”
“نسوا الله فنسيهم”
“وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه”
فهل هذه استعارات تخالف العقيدة؟ حاشا لله.
ثم إن الحكم على شاعر بأنه ارتكب كفرًا، أمر فيه تسرع كبير، ولا يجوز شرعًا ولا أدبًا أن يُقال على شاعر مسلم بأنه “كافر” أو “مشبّه بالرب” فقط لأنه استخدم صورة شعرية.
ولو تأملنا في قواعد الفقهاء، لوجدنا أنهم قالوا:
“لا يُكفَّر المسلم إلا إن قال قولًا صريحًا في الكفر، لا يحتمل تأويلاً.”
أما الشعر، فمساحته أوسع، وتأويلاته متعدّدة، ووزن الكلمة فيه يختلف عن وزنها في العقيدة أو الفتوى.
نسأل الله لنا ولكم الهداية، وألا نكون من الغالين ولا من المتسرعين في إطلاق الأحكام، وأن يجمعنا على محبته وطاعته، وأن يُلهمنا العدل والحكمة”.
كما كتب فريد النمر ” رسالة لا مغزى فيها غير التعريض هكذا أجدها، إنما هي تأويلات قياسية للشعر والشعر أجمله أكذبه متعدد التأويل في غزله وبنيته.
وتشخيصه خارج سياقاته الخاصة باقتباسات منه يعد تحريفا لبنية النص الكلية باقتباسات ترضي قائلها وجمهوره
ففي الشعر ليس هناك حق ومنطق يراد به باطل أو بالعكس بل مجاز كله لا حقيقة فيها سوى روحية الكلمات المبدعة”.
وعلق دكتور لقمان شطناوي “1500سنة والعرب تكتب شعر الغزل حسيا وعذريا فلم وقفت على هذه الصورة التي أراها فريدة لم يأت بمثلها أحد.. لم يذكر امرأة بعينها ولا ذكر ما يخدش الحياء.. لكن يعاب عليه هذه المبالغة التي لا تكون.. ولكنه الشعر أعذبه أكذبه”.
وفي حكم صريح ومختصر من وجهة نظر الشاعر حميد الوافي قال “كل يرى الأمور من زاوية يهتم بها، ومع أني أحترمك كثيرا، وأحترم نقدك، لكن هذان البيتان من أروع ما قيل في الغزل. أسأل الله أن يزيدك من علمه”.
وذكر وثيق الصنعاني الدكتور الرصين بنتاج الشاعر ومذهبه، مبدياً إعجابه وحبه الشديد له “لكن لا تنسى أن لديه ديوان رقصة عرفانية، كله عرفان
والعرفان هذا موجود عند الشيعة وهو أشبه بالتصوف وجاسم شيعي إمامي وكذلك له قصائد دينية صوفية كثير.
وهو أكثر شاعر معاصر أحبه للأمانة”.
ونختم بما كتبه دكتور أحمد الهلالي الذي قال “وحين يقوم من الأجداث أقوام ويزِنون بالحقيقة مجاز الكلام فقل على الشعر السلام”.
قصيدة الشاعر كي لا يميل الكوكب
في كلِّ عضوٍ منكِ روحُ تُقىً
تُضفِي عليه جمالَهُ الأنقَى
فكأنَّ خصرَكِ وَسْطَ عُزلَتِهِ
مُتَصَوِّفٌ لِلعالمِ الأبقى
وكأنَّ جِيدَكِ في استقامتِهِ
مُتَمَسِّكٌ بالعروةِ الوثقى
في الخَصرِ ما في الجِيدِ من وَرَعٍ
لا تسألي مَن منهما الأتقى
وجوارحي بِهَواكِ قد غَرِقَتْ
فأنا هنا سَيلٌ مِنَ الغرقَى
وأنا الضحايا في حقيقتِهم
لا تَطلُبِي من غيرِهِم صِدقا
هيا اعشقيني كي يُتاحَ لنا
أن نستعيدَ لِنَفسِنا الخَلْقَا
إن لم تَخُوضِي البحرَ ذات هوىً
قبلي ولم تَستَكشِفي العُمْقَا
ففراشةٌ في النارِ واحدةٌ
تكفي لأنْ نتعلَّمَ العِشْقَا
هيا اعشقيني كي نطير إلى
أقصى المدى ونُوَسِّعَ الأفقَا
وعلى العِناقِ نرى مَجَرَّتَهُ
عُنْقاً تَشُدُّ على الهوى عُنقا
زنداكِ ميزانٌ بِثِقْلِهما
يَزِنُ المَدَارُ الغربَ والشرقَا
لا ترفعي زندًا بِمُفرَدهِ
كي لا يميلَ الكوكبُ الأشقى
وتَمَسَّكِي بالشَّوقِ بَوصَلَةً
سنضيع حين نُضَيِّعُ الشَّوقَا
لا تأمَنِي لأصابِعِي فأنا
أدري بأنَّ أصابِعي حَمْقَى
جدير بالذكر أن
جاسم الصحيح هو شاعر سعودي من محافظة الأحساء، ولد بمدينة الجفر عام 1384 هـ/ 1964م) صدر له العديد من الدواوين الشعرية من أبرزها: ديوان «كي لا يميل الكوكب» الديوان الفائز بجائزة الشاعر محمد الثبيتي عام 2014. وهو حاصل على الكثير من الجوائز الأدبية من بينها جائزة سوق عكاظ الدولية للشعر العربي الفصيح 2018.