الحسد.. حين يشتعل القلب على قدر الله

عبدالله أبو رشيد
تأمل في قوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}
في زمنٍ كثرت فيه المقارنات، وتضخّم فيه حضور الناس في حياة بعضهم البعض، بدأ داءٌ قديم يُطلّ برأسه من جديد… لا من جديد في وجوده، بل في شدّة انتشاره.
إنه الحسد؛ ذاك الداء القلبي الذي يُفسد على الناس عيشهم، ويطفئ نور أرواحهم، ويشوّه معالم الحبّ والنقاء بينهم.
لكن الحسد ليس وليد هذا العصر، ولا ناتجًا عن مواقع التواصل أو تفاوت الأرزاق.
إنه داءٌ أزلي، كان أول ما عُصي الله به في السماء، وأول ما سُفك به دم على الأرض.
إبليس… الحاسد الأول
حين أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، امتثلوا كلهم، إلا واحدًا… لم يكن من جنسهم، لكنه كان في مقامهم.
أبى إبليس، واستكبر، وقال كلمته التي سجّلها القرآن في أبلغ موضع:
“أنا خيرٌ منه، خلقتني من نار وخلقته من طين!” (الأعراف: 12)
كانت تلك لحظة الحسد العظمى.
لم يعترض إبليس على الخلق، بل على التفضيل، لم يحتجّ بعقل، بل بانفعال… فطُرد من رحمة الله، لا لأنه رفض السجود فقط، بل لأنه لم يحتمل أن يُفضّل غيره عليه.
وهكذا…
بدأ الحسد كاعتراض على فضل الله، فانتهى بصاحبه إلى اللعنة الأبدية.
قابيل… حين امتد الحسد من القلب إلى اليد، ثم كان الحسد سبب أول دمٍ سُفك على الأرض.
قابيل وهابيل، أبناء آدم، قدّما قربانًا إلى الله، فتُقُبِّل من أحدهما، ولم يُتقبّل من الآخر، وهنا، لم يحتمل قابيل رؤية الفضل لأخيه، فقال له:
“لَأَقْتُلَنَّكَ” (المائدة: 27)
فقتله… لا لذنب، بل لأن الله تقبّل منه ولم يتقبّل من الآخر.
أرأيتم؟
لم يكن القتل لحاجة، ولا لعداوة، بل لحسدٍ نبت في القلب، ثم امتدت يده لتسفك الدم.
وهكذا أصبح الحسد أول دافع للجريمة على الأرض.
لذلك قال الله: “ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض”
هذه الآية الكريمة ليست توصية عابرة، بل قاعدة في فهم النفس والقدر والرضا.
فالله حين ينهانا عن التمنّي، لا يمنعنا من الطموح، بل يمنعنا من الاعتراض الداخلي على اختياره لعباده.
“للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن…”
لكلٍ طريقه، وسعيه، ونصيبه الذي قُدّر له بحكمة لا نراها، لكننا نؤمن بها.
ثم يوجّهنا إلى الحل، لا بالنهي وحده، بل بالفعل الإيجابي:
“واسألوا الله من فضله…”
لا تلتفت لما في يد غيرك، بل ارفع يديك إلى الله، واسعَ بما تقدر، واسأله من خزائنه التي لا تنفد.
الحسد لا يسرق النعمة من غيرك… لكنه يسلب السلام من قلبك
كم من قلبٍ انطفأ، لا لأنه فقير، بل لأنه مشغول بما عند غيره؟
وكم من عينٍ جفّ دمعها، لا لفقد، بل لأن نظرها لم يَسلَم من مقارنة؟
وكم من علاقة تصدّعت، وقلوب تحجّرت، وسعادة غابت، فقط لأن الحسد تغلغل دون أن يُواجَه؟
الحاسد لا يفرح لنفسه، ولا يسعد لغيره، ولا يرضى بنصيبه، ولا يهنأ بحياة.
إنه عدوّ نفسه قبل أن يكون عدوًا لغيره.
العلاج؟ الرضا… والتسليم… والثقة بالله
كلنا نضعف، كلنا نرى في أنفسنا مشاعر غيرة أو تمني ما عند الآخرين.
لكن الفرق بين القلب السليم والمريض هو في الموقف التالي:
هل نحول هذه المشاعر إلى تسليم وسؤال لله؟ أم نتركها تتخمّر حتى تُفسد القلب والعين واللسان؟
إن من علامات الإيمان الحي: أن تفرح لنعمة أخيك، وتدعو له، وتثق أن ما عند الله لك، لن يخطئك، وما عند غيرك، لن يُصيبك.
قال المصطفى عليه وآله افضل الصلاة والسلام:
“لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.”
وهذا هو الجدار الذي يقف بيننا وبين الحسد: الإيمان.
ختامًا… لا تُطفئ قلبك بنار المقارنة
في زمن الإعلام المفتوح، والظهور المزخرف، صارت النعم تُعرض لا تُحفظ، وصار الناس يقيسون سعادتهم بما ينقصهم لا بما يملكون.
لكن المؤمن يعلم أن الرضا كنز، وأن التسليم عزّ، وأن فضل الله أوسع من أن يُحصى.
فقل بقلبك قبل لسانك “اللهم بارك لهم، وارزقني من فضلك، وارضني بما قسمتَ لي.”
“واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليمًا.” (النساء: 32)