القدور الثلاثة والدلّة.. ما تبقّى من زمن الرجال

عبدالله أبو رشيد
لم تكن الحياة يومًا سهلة،
لكنها كانت كريمة حين سكنتها قلوب مثل قلوبهم.
كانوا يصنعون من القلّة قدرة، ومن الضيق كفاية، ومن الرماد شرفًا.
تفاح… برتقال… زبيب… لومي!
ذهب عتيق… من عنده صِفِرْ؟
إرويد… بقل… جرجير… فرفخ!
تلك النداءات لم تكن مجرد صياح باعة متجولين،
بل كانت أصواتًا تُعلن عن بداية يوم في حارةٍ ما زالت حية في الذاكرة.
كنا نصحو عليها، نفتح أعيننا على عالمٍ فيه البساطة عمق، وفي النداء نُبل.
أصوات تتردّد في الأزقة الضيّقة كأنها ترتيلة يومية،
لا تُباع فيها الفاكهة فقط، بل يُباع الحنين،
ويُشترى اليوم بلقمةٍ طازجة على قدر الحال.
وفي البيت، كان صوت والدتي — رحمها الله —
يسبق ضوء الشمس بدقائق:
“أصبحنا وأصبح الملك لله.”
ثم يبدأ اليوم:
طلباتٌ ناعمة، حازمة، لشراء الخضار، أو لبيع ما تبقّى من أوانٍ قديمة،
كنا نحملها ببراءة الأطفال، نضحك في الطريق،
ولا ندرك أن بين أيدينا ما تبقّى من ذاكرة جيل،
من مدخرات رجال، كانوا يملكون — يومًا — ذهبًا ونحاسًا وكرامةً.
لكن، حين ضاقت الدنيا، لم يبقَ إلا:
ثلاثة قدور… ودلّة نحاسية.
ما كانت وصيّة للحفظ،
بل بقايا زمنٍ كان فيه الجدّ يُكرم الضيف،
ويُقيم الولائم،
ويُعدّ القهوة بيديه دون أن يسأل عن ثمن الماء أو الحطب.
القدور كانت لطبخ النوايب،
لكنها تحوّلت لاحقًا إلى آخر ما يُباع،
إن اشتدّت الحاجة.
مدخرات الكرامة، لا التفاخر.
وكانت والدتي، رحمها الله، حين باعَت “مرتعشها” — ذاك الحلي الذهبي —
لم تفعله إلا حين أصبح البيع أقرب من السؤال.
ففي ذلك الزمان، يُباع الذهب، لا تُباع الوجوه.
في إحدى الليالي، خرجتُ مع جدي — رحمه الله — من المسجد بعد صلاة المغرب.
وفي الطريق، وجدتُ مبلغًا من المال.
أمسكته بفرح، فوبّخني جدي، وقال:
“ما وُجد في الطريق، لا يُملَك، حتى نُعيده لصاحبه.”
أخذني بيده، وجال بي الحارة من طرفها إلى طرفها،
ينادي بصوته الهادئ:
“من له ضالة؟ من فقد مالًا؟”
وفي زاوية من الأزقة، سمعنا نداءًا مماثلًا.
اقتربنا… وإذا برجلٍ يقول:
“ضاع عليّ مبلغ ٨٠٠ ريال، دفعته لأحد ليُسجّلني في حملة زيارة.”
زيارةٌ إلى الأماكن المقدّسة.
رحلةٌ تستمر ثلاثة أشهر،
هي كل ما تتركه السنة الدراسية من عطلة،
وكل ما تتركه الأيام من أمل لرجلٍ بسيط.
سلّمه جدي المبلغ فورًا.
نظر إليّ، وأخرج من جيبه خمسة ريالات،
دسّها في يدي، وقال:
“خذ… لتتذكّر أن الأمانة دين، والمروءة دين، واليد النقية لا تُعدم رزقًا.”
حين فتّشتُ أوراق والدي — رحمه الله —
وجدت وصية جدي، وذُكر فيها القدور الثلاثة والدلّة.
لم يقل إنها تركة، ولا أمرنا بحفظها كآثار.
بل كانت تلك الكلمات شاهدًا على ما تبقّى له من مدخرات.
لم يورث لنا منازل، لكنه ورّث أدوات القوة:
القدور… من القدرة.
والدلة… من الدلالة على الكرم.
وترك لنا صورةً من صبر الرجال حين يشتد الحصار.
ما تركوه لنا لم يكن كثيرًا،
لكنهم ورّثونا ما لا يشتريه أحد:
أخلاق الطريق… وقيمة الشيء… وحُرمة اللقمة.
لم يتركوا لنا عقارات، ولا حسابات بنكية،
لكنهم تركوا لنا:
القدور الثلاثة… والدلّة… وشرف حفظ الأمانة.
وما تزال وصاياهم تعيش فينا،
ليست مكتوبة بالحبر، بل محفورة على النحاس،
ومطرّزة في صوت الباعة،
وعالقة في نظرة جدّي حين قال:
“لا تشترِ ما ليس لك، ولو بنظرة.”