سيرة طالب 115] رحلةٌ فوق الوصف

الشيخ علي الفرج
لقد أتممنا، بفضل الله وكرمه، رحلة الحج المباركة، تلك السفرة الإلهية التي لا يستشعر عمق حلاوتها إلا من غاص في أعماقها، أو لمس بأصابعها. يا لها من غرابةٍ أن يُدمن الإنسان إدمانا ناشطا في هذه الرحلة التي يأتون إليها الناس (رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).
لقد حدثني بعض المؤمنين عن حجّاتٍ جاوزت الخمسين، وآخرون عن أربعٍ وأربعين، وإنني لأقرّ بقلّة الزاد إزاء هذا السبق الإيماني. بيد أن القبول ليس بكثرة الحجج، فقد يتقبل الله حجّةً واحدةً خالصةً لوجهه، ولا يلتفت إلى خمسين إن شابها ما شابها. وما نقل مؤكدًا عن المرجع السيد شهاب الدين المرعشي (قدس سره) من عدم توفيقه للحج قط، لأنه لا يستطيع ماديا أن يذهب إلى الحج، يذكّرنا بأن الامضاء بيد الله هو الذي يقبض ويبسط. ومع ذلك، فقد تواترت الروايات الشريفة والحثّ على تكرار الحج وإدمانه، لما فيه من عظيم الأجر.
ومضاتٌ حول رحلتنا
في غمرة هذا الموسم تجلت ثلاث محطاتٍ تركت في ذاكرتي أثرًا لا يُمحى، ولا يطويها النسيان:
١. أوج الرحمات في دعاء عرفة
كانت تلك الساعة في عرفات، ساعةٌ طُويت فيها أزمنةُ المادة، وتلاشت فيها قيود الماهية. انغمستُ فيها ذائبًا في حضرة الله، ففنيت ذاتي وجسمي، وتوحدت روحي مع نداء الدعاء الخاشع. مرت تلك اللحظات وكأنها بضع دقائق معدودة، ولا أبالغ، ثم فاجأني انتهاؤها، ويا ليت تلك الدقائق امتدت إلى مرة أخرى! كنتُ واقفًا على قدمي، ولكن روحي كانت تحلّق في ملكوتٍ أسمى، والله إنها من أروع لحظات حياتي في هذه الرحلة.
٢. رحلة الكتابة بين المشاعر
لقد امتزجت الأماكن المقدسة بشغفي بالكتابة. ففي أثناء التنقل في جميع المشاعر وبين جنباتها، كنتُ أدوّن ملفًا خاصًا بكتاب “مرجعية القرآن”، الذي سبق لي الإشارة إليه في “سيرة طالب”. كنتُ أخصّص للكتابة ما يناهز الخمس أو الست ساعات يوميًا في سكن مكة، واستمرّيتُ في ذلك بعرفات، ثم بمزدلفة، وفي مخيم منى، بل حتى عند الجمرات. لقد تمازج هذا الموسم من الحج بمسيرة تأليفي لـ “مرجعية القرآن”، ولم يكن أسفي إلا لضيق وقت الموسم، الذي حال دون أن ينتهي.
٣. إصرارٌ قرآنيٌّ في مهبط الوحي
لقد كان في خلدي إصرارٌ عظيمٌ على تلاوة القرآن الكريم وختمه في هذا الموسم، استجابةً للروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، ومن ذلك ما رواه كتاب التهذيب (ج 5، ص 468): “مَنْ ختم القرآن بمكّة لم يمت حتّى يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويرى منزله في الجنّة”. وقبل أيامٍ قلائل من الشروع في هذه السفرة، أفصحتُ لبعض المؤمنين عن عزمي على تلاوة القرآن كاملاً في هذه الرحلة. فقال لي: إن شاء الله هذا الالتفات الجميل سوف أطبقه هذا الموسم.
وشاء أن نلتقي ونحن في طريقنا إلى الجمرات، فقال لي متهللاً: الحمد لله، في هذا اليوم ختمت القرآن!.
فقلت له مبهورًا: ما شاء الله، لقد قرأت القرآن كاملاً، ولكني لم أستطع مجاراتك في هذا الأجر العظيم.
فابتسم وقال: أنت لك الأجر في لفت انتباهي إلى هذه الفكرة وتشجيعك لي.
شكرٌ وإجلالٌ
لا يسعني في هذا المقام إلا أن أتقدم بحجم الشكر الكبير إلى كوادر قافلة الأنصار بأم الحمام. إنهم كرامُ القوم، ورجالٌ شجعانٌ بحق، يحركون عجلة الحملة بهمّتهم العالية وإخلاصهم المتفاني، فهم السند في هذه الرحلة التي لا تُنسى، شكرا لكم وشكرا للمرشدين الذين أخلصوا لله، وخلصوا لله.