سيرة طالب 113] رحلة في عمق البحث والتأليف

الشيخ علي الفرج

تتجلّى الحكمة أحيانًا في نصيحة عابرة، لتغدو بعدها منهجًا يُضيء دروب العلم والمعرفة. هذا ما عايشته شخصيًا، حين استمعتُ إلى مقطع فيديو بديع على يوتيوب، لأستاذنا الفاضل الشيخ نزار آل سنبل، وعنوانه يحمل في طياته الوضوح:

“نصيحة الميرزا علي الفلسفي، وكلمة حول تراكم جهود العلماء في تطور العلوم”.
تحمل القصة في طياتها تجربة إثرائية للشيخ برفقة ثلّة من طلبة العلم، زاروا خلالها الميرزا علي الفلسفي، وهو قامة علمية بارزة من أساتذة حوزة مشهد. يتمتع الميرزا الفلسفي بمنزلة علمية رفيعة، تُوّجت بإجازة خطية بالاجتهاد من السيد الخوئي، وقد أكّد أستاذنا الشيخ نزار أنه قد عاين هذه الإجازة بنفسه.

نصيحة الميرزا الفلسفي المنهجية: إضاءة دروب الباحثين حينما سأل الشيخ الميرزا الفلسفي موعظة، كانت الإجابة نبراسًا يُهتدى به في ميادين البحث. خلاصتها تكمن في هذه الكلمات الذهبية:

“إذا أردتم الخوض في غمار فكرة علمية، فليكن أول ما تُبادرون إليه هو استدعاء الأدلة المكنونة في ذاكرتكم وما علق بذهنكم، دون التطفل المباشر على الآراء المدونة في أسفار الكتب ومجلداتها. بعد ذلك، زِنوا دليلكم وبرهانكم الشخصي بما سطّره العلماء في مؤلفاتهم. في بداية هذه المقارنة، ستُدركون الفارق الشاسع بين ما توصّلتم إليه وبين ما أورده كبار العلماء وفحولهم.

ومع تكرار هذه المنهجية الأصيلة، ستُفاجئون باقترابكم التدريجي من أدلة الفقهاء والأصوليين الأجلّاء. ومع مُضيّ فترة زمنية كافية، ستصلون إلى أدلة وبراهين لا تُدانى شأنًا بما توصّل إليه العلماء الأفذاذ.” انتهت القصة.

تجلّي النصيحة في التجربة: “العباس بين الأسطورة والواقع”

تلك القصة، بما تحمله من حكمة بالغة، هي في نظري صحيحة، نظريًا وتطبيقيًا. وما يُثير دهشتي أنني قد طبّقت هذه المنهجية لسنوات قبل أن أدرك كنهها، وكان ذلك جليًا في رحلة تأليف كتابي: “العباس بن علي (ع) بين الأسطورة والواقع”.

رحلة التأليف: مراحل ثلاث رسمت المنهج:

استغرقت رحلة تأليف هذا السِفر سنتين كاملتين، مرت خلالها بثلاث مراحل أساسية ومفصلية، صاغت مساره وشكّلت منهجه.

رحلة التأسيس: وجوبٌ وبركة

بدأتُ غوصي في بحر الكلمات لتدوين الصفحة الأولى من الكتاب بنية مزدوجة: الوجوب والبركة. أما الوجوب، فكان نذرًا شرعيًا أطلقته على نفسي في حرم أبي الفضل العباس (ع)، حينما مرضت زوجتي الفاضلة. نذرتُ قائلًا: “لله عليّ لئن شُفيت هذه المرأة ببركة أبي الفضل لأكتبنّ كتابًا خاصًا عن حياة هذا الرجل العظيم”. وبفضل الله، شُفيت زوجتي بعد أسبوع واحد ببركة هذا الرجل العظيم، فشرعت في الكتابة وفاءً بما قطعت على نفسي. وسأُفرد لقصة شفائها مقالًا تفصيليًا قريبًا إن شاء الله.

أما تعبيري “بالبركة”، فكان يُشير إلى نيتي في جمع الروايات، دون الخوض في تحليلها في اللحظات الأولى. بدأتُ بكتابة الصفحة الأولى، مستهدفًا تجميع الروايات والبحث عن مصادرها الأصلية لتقديمها للقارئ. لكن ما فاجأني في الصفحة الثانية هو اكتشافٌ صادمٌ: رواية شائعة جدًا، وهي: “إنّ ولدي العباس زُقّ العلم زقًا”، كانت مجهولة المصدر أو مخترعة تقريبًا في حدود سنة 1200 هجرية. هذه الرواية وردت في كتاب “إكسير العبادات في أسرار الشهادات” لآغا الدربندي (1208هـ – 1285هـ)، وهو فقيه بل مرجع يُقلّده أهل دربند وغيرهم. ورغم مكانة المؤلف، إلا أن كتابه الذي يتناول واقعة الطف ومقتل الإمام الحسين بن علي (ع) مليء بالروايات المخترعة. والأعجب، أنني، في بدايات مسار تأليف الكتاب، حين كانت ثقافتي التاريخية لا تزال بدائية، كنتُ أُناقش هذه الرواية مع فضلاء طلبة العلم، ولم أجد أحدًا من المحققين أشار إلى نقدها أو كونها من المستحدثات.

وبينما كنتُ أُخطّ صفحةً تلو الأخرى، وشهرًا بعد شهر، كنت قلقا في مواجهة آراء العلماء التي تخالجني في قراءتي. كنتُ أسعى بكل جهد لتصحيح أي رواية، حتى لو كانت واهية كـ “بيت العنكبوت”. وكنتُ أخشى أن أُقدم شيئًا جديدًا يتعارض مع ما هو معروف ومشهور، ناهيك عما هو مُتسالم عليه بين أهل العلم. لذلك، حرصتُ على السير في مسارهم، وربما خالفتهم في جوانب يسيرة، وبحذر شديد.

مرحلة الجرأة المعتدلة

في الثلث الثاني من الكتاب، بدأتُ أُخطو خطوات أكثر جرأة، مُتمسكًا ببعض الأدوات العلمية. أصبحت حركتي العلمية تتّسم بقدر من الممارسة الجريئة نوعًا ما، لكنها في الوقت ذاته كانت تستند إلى ما تسالم عليه العلماء، مُحافظًا على هذا التوازن الدقيق بين الأصالة والتجديد.

مرحلة الفلترة العلمية العميقة

أما في الثلث الأخير، فقد ترسخت كتابتي بأدوات علمية وجرأة أعمق. لم تعد أيّ رواية، سواء كانت تاريخية أو فقهية أو غيرها، تمرّ في عقلي إلا بعد خضوعها لـ فلترة علمية دقيقة، بغضّ النظر عمّا إذا كان العلماء قد تسالموا عليها أم لا. لقد تمسّكت بهذه الفكرة، أي الفلترة العلمية، تمسّكًا شديدًا لا مساومة فيه.

النتيجة: ميلاد منهج وتأليف جديد:

لقد كان هذا الكتاب، بلا شك، نقلة مفصلية في حياتي. فقد مكّنني من التحرك في مجالات الأدوات العلمية بمنهج واضح ومستقيم بحسب رؤيتي. وببركة هذا الكتاب، استنتجتُ وألّفتُ كتابًا فقهيًا آخر هو “مرجعية القرآن”. هذا الكتاب يركز في عملية استنباط الأحكام على آيات الله الكريمة، لا على “آيات البشر” التي تُشير إلى سلسلة الرواة، مُقدمًا بذلك رؤية جديدة في عمق الفقه.

رابط الكتاب

https://t.me/alialfaraj1/50

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×