وثائق] قضاء القطيف.. نماذج من الصفحات الناصعة

لؤي سنبل
في الوثائق القديمة علم كثير، هذا ما أشار له أكثر من واحد ممّن تعامل مع الوثائق القديمة فأفاد منها الكثير، ففيها تأريخ ينفع المؤرخ المتتبع، وفيها أسماء تنفع الرجالي والمهتم بالأعلام، وفيها أسماء بلدات وقرى قائمة أو مندثرة تعين الجغرافي لتحديد المواقع ومعرفتها … إلخ .
واليوم نقف مع بعض الوثائق التي تعكس لنا جنبة مهمة من جنبات التاريخ القطيفي العزيز، ألا وهي جنبة (القضاء) ، ومعلوم أن القضاء في القطيف شأن من شؤونهم الخاصة، وكانت الدولة تمنح القاضي الشرعي الصفة الرسمية، لتكون أحكامه الشرعية سارية المفعول في الدوائر ومقبولة لدى الجهات المتعلقة بها رسميا.
وأول قاضٍ قطيفي أقرّته الدولة السعودية في منصبه هو آية الله العظمى الشيخ علي ابن الحاج حسن علي الخنيزي، والمشهور باسمه وكنيته بـ (الشيخ علي أبو عبدالكريم)، وقد كان قاضيا منذ أيام الحكم العثماني للمنطقة، ولما دخل الملك عبد العزيز إلى القطيف أقره في منصبه.
وقد كانت له من المؤهلات والصلاحيات ما جعلت فترة قضائه فترة مزدهرة كماً وكيفاً، وكما يقول الشاعر محمد سعيد الجشي رحمه الله : (من مظاهر عظمة هذا العالم العبقري الفذ أن أهل الحاضرة والبادية أجمعت عليه ورضيته قاضياً عدلاً وحكماً فصلاً، تثق بما يقطع به رأيه وما يصدر به حكمه ، وأما الدولة فتوليه من الثقة والتقدير وتمنحه من الصلاحيات فوق ما يتصور ، وقد تولّى القضاء في القطيف ما يقارب أربعين سنة ، وقد توفي والكل يشعر بأنه في حاجة إليه) ([1]) .
والحديث في هذا الجانب طويل ليس مجاله هنا، وما جرّني لهذا الحديث هو ما قُدِّر لي مؤخراً من الاطلاع على بعض الوثائق المتعلقة بقضائه رحمه الله ، ورأيت فيها جنبات تستحق الوقوف عليها والحديث عنها.
دقة في حصر الأوقاف وحق الأيتام :
رأيت فيما رأيت دفتر حصر الأوقاف التي كانت تحت يد المرحوم الحاج حسن بن أحمد آل سنبل (1294هـ- 1352هـ )، وفيها حصر لكل الأوقاف التي تحت يده من نخيل وبيوت .. حتى الأواني التي كانت تستعمل للطبخ أيام المناسبات، وكل وقف حُدّد واقفه وجهته، وفي آخر الصفحة المكتوب بها وقّع الشيخ وختم على صحة هذا التسجيل والاعتراف.
([1]) الأزهار الأرجية ج15 ص322
ومثل هذا الحصر وجدته مع من ولاّه على الأيتام، فهو مطّلع تماماً على كل ما لليتيم من حق وما عليه من طلبات، وتابع صغيرها وكبيرها:
فالولي هنا (الحاج عبدالله بن أحمد آل سنبل) قد احتاج للاستدانة لإنهاء بعض حسابات اليتيم الذي تولى رعايته، فكانت الاستدانة بنظر الشيخ أيضاً .
ونلاحظ هنا سجعة ختمه (علي بالحسنين مهدي ) قبل إبدالها إلى: (علي مع الحق والحق مع علي).
دقة في المحاسبة :
وبعد أن ينتهي دور الحصر يأتي دور الحساب السنوي، واطلعنا على الدفاتر التي بها الحسابات السنوية، سواء للأوقاف أو للأيتام ، ورأينا الشيخ قد تابع صغيرها وكبيرها، من الداخل عليها والخارج منها، فإن رآها صحيحة صادق عليها، وإن رأى فيها خلافاً لحكم أو لحساب صححه وبيّنه، وهذا مثال واضح:
حيث أن هذه اليتيمة ( زوان) توفيت قبل قبض الثمرة، فظنّ الولي أن لا حقّ لها فيها، فلم يحسبها في تركتها، إلا أن الشيخ بيّن له أن الثمرة تـُملك في هذا المورد بالخروج من الأكمام دون شرط القبض.
وهنا مثال آخر لتصحيح خطأ، ولكنه هذه المرة في خطأ في الحساب:
فمن ضمن الحسابات (6) ربيات ، وأخطأ جامع الحسابات فاعتبرها (5) ربيات ، فالتفت الشيخ لهذا الخطأ وصوّبه ، قبل أن يمضي الحسابات السنوية.
وإذا كانت الحسابات تامة لا تعديل فيها، أمضاها وصادق عليها:
وربما أشهد معه غيره على ذلك، وكثيرا ما رأينا معه شهادة أخيه العلامة الشيخ محمد علي الخنيزي، وأحيانا نجد شهادة أعيان البلاد ووجهائها إضافة إلى المقربين من أصحاب العلاقة، خصوصا إذا كان في الأمر قسمة أو نحوها مما لعله يكون مظنة التهمة أو الخلاف.
شدة في ذات الله:
حدثت قضية نزاع على أوقاف، أذكرها مختصراً بحذف بعض الأسماء، لئلا نـُسيء أو نـُشهّر بأحد، كان الطرف الأول فيها الحاج علي ابن الشيخ بدر آل سنبل، حيث كان متولياً على أوقاف كثيرة في أكثر من ناحية من نواحي القطيف، وفي فترة ازدهار الزراعة والمردود الاقتصادي العالي الناتج منها، نازعه أحد كبار الشخصيات على مستوى القطيف، وطلب عزله عن الولاية، وكحَلٍّ يرضي الجميع، أقرّه الشيخ على ولايته وجعل ذلك الشخص ناظراً عليه، إلا أن الناظر أساء المعاملة وما أحسن التصرف، ولما عوتب وطلب منه العودة للحق، قدّم للشيخ استقالته من النظارة ظناً منه أن تكون استقالته ورقة ضغط على الشيخ والولي، إلا أنه فوجئ بقبولها، مما جعله خارج الدائرة تماماً.
وهنا لجأ إلى طريقين:
- توسيط بعض الشخصيات القطيفية الكبيرة لإقناع الشيخ بعزل الولي .
- الاتجاه للدوائر الحكومية الأخرى : شرطة ، إمارة.
وكلتا المحاولتين باءتا بالفشل.
أما الوساطة فردهم الشيخ رداً جميلاً، وقال فيما قال: (قد حضر عندنا في العوامية الإخوان : فلان وفلان وفلان … وطلبوا منا أن نجعل ولياً ليس في البلدين، وأحببت الإجابة لكن بشروط لم يكن منها شيء، فلم يكن منا حدث في أمر الولي، فالولي هو العلي لتحيطوا علماً).
أما الجهات الرسمية فقد أرجعوا الأمر للشيخ، ونقتطف من خطاب الشيخ لأمير القطيف ( مشاري ):
( سعادة محترم المقام الأكرم حضرة أمير القطيف المحترم سلمه الله وكفاه آمين …
… وجواباً على كتابكم المرقوم:
أما أولاً : أفهمونا ما دخل ( فلان ) في ميادين الشرع المحمدي؟ وأي تعلق له بالمادة الشرعية والأحكام المحمدية؟ فما المسوّغ له في تقديم ما قدّم؟ والتكلم بما اشتهته نفسه، سوى الجهل أدخله فيما لا يعنيه، وساقه إلى ضرره في دينه، نعم لدخوله وجولته في ميدان الجهل ثمرة توجب جراءة كل جاهل على حفظة الشرع واستهوان جانب الحكومة، الملقي لهم في ضرر أنفسهم، فليتقِ الله حق تقاته ….
وأما ثانياً : فما أرى كتابه لكم إلا إشعاركم باقتداره في دفع الحكم المحمدي، اللازم منه الرد على رسول الله والراد عليه راد على الله، والراد عليه مكبوب على منخريه ….
…. وبعد أيام قدّم لنا صحيفة أضاف لنفسه بعض أفراد من (…..) لا يفهمون لفظ كتابه ولا يشعرون بمقاصده، ظاهرها يرجو عزل الولي وباطنها يحكم علينا بعزله، فأجبته إن وجدت خللاَ شرعيا فيه لزمني عزله، وإلا فلا يناسبني عزل من لم أجد عليه شيئاً ….
… وما أدري وإني لحائر ما جرّه على تجاوز الحدود الشرعية وعدم الاعتناء بالحكومة مطلقاً؟! وما ذاك إلا لسرٍ قد خفي ظاهره علينا والله أعلم به، فتراه يخبط في ظلمة جهله، ولم يعبأ بأحد ولا يعي لضرر نفسه …
… والحاصل الإعراض عمّا في كتابه بل عن خطابه أحرى وأشرف، إذ لا طريق له فيما عرض نفسه، فلا خطاب لمن لا طريق له في الشرع….).
وانتهت المرافعات في القضية بالاعتراف الرسمي بما أجراه الشيخ، والرضوخ من بقية الأطراف به أيضا، بعد عجزهم عن مقارعة الشيخ لا بالحجة ولا بالاتجاه إلى الأساليب الأخرى الرسمية وغيرها.
الولاية التي بها الناظر، وقد محونا اسمه
بعد وفاة الشيخ رحمه الله تعاقب الإقرار على الولاية
هذه صفحة من صفحات القضاء القطيفي الناصع، وكم فيه من صفحات مضيئة حبذا لو كُشف النقاب عنها.