في سيرة الشهيد الصفار القطيفيّ أصلاً، الكويتيّ استشهاداً، النجفي مولداً ومدفناً..!
كان اسم أسرته “الصفّار” وبالاً عليه في ثمانينيات القرن الماضي، على الرغم من المسافة الهائلة بين الثوريّ ـ وقتها ـ الشيخ حسن الصفار وبين الشيخ جعفر الصفار الذي نتحدث عنه هنا. الأخير محسوب على “المحافظين” النجفيين. لكن شبهة الاسم لحقت به، ومعها شبهة القرابة، وشبهة الانتماء الجغرافيّ أيضاً. ولذلك أخذ نصيبه من متاعب ذلك العقد المعقد.
وذلك ما جعل منه حانقاً على تيار الحركيين جميعهم، وحاملاً فوبيا من كلّ ما هو سياسيّ وأمني. حتى أننا كنّا نمازحه، فيثور علينا حين يكتشف تخابثنا. كان يكفي أن نقول له إننا لمحنا “جيب مباحث” قريباً من سيارتنا، فينقبض وكأنه يترقب شبحاً وشيكاً. ثم يجلدنا بلسان ذي لكنة عراقية اكتسبها منذ نشأته مع والده في النجف.
عرّفني إليه أصدقاء من جنوبي مدينة القطيف، أواخر الثمانينيات. وكنتُ وقتها أعيش حالةً تفلنزية متهورة. شدّني فيه أنه على طبيعته. لم يكن من طلبة العلم الذين يُشعرونك بأنهم معقّمون بـ “دهن عود”، أو كأنهم يؤدون أدواراً في مسلسلات تاريخية دينية. بدا عراقياً بسيطاً عفوياً، لا تأخذه ـ في البساطة ـ نظراتُ متحذلق ولا اعتبارات “برستيج” الإيمان. يقول ما يريد وانتهى الأمر.
كأنه من دراويش الناس. على ذلك؛ لم يكن سطحياً، ولا مدّعياً. طلبتُ إليه حضور درس “شذور الذهب” في النحو لابن هشام. وافق بلا تعالٍ.
كان الدرس خليطاً من الشرح والتندّر و الـ “چايْ” و الـ “جگاير”.
لا أتذكر لمَ انقطع الدرس، غير أنه ترك القطيف وغاب عن الناس وانقطعت عني أخباره. وفي صدفةٍ لاحقة بعد ذلك بسنوات التقيته في مجلس الشيخ سعيد أبو المكارم في العوامية. ولدى مغادرته؛ نكزني بأصابع كفّه قائلاً “جگايرْ”. مددتُ يدي إلى جيبي وأعطيته علبة السجائر والولاعة…!
كنتُ أسمع أخباراً متباعدة عنه وعن تنقلاته بين القطيف والأحساء والكويت. كان على باب الله، ممتهناً الخطابة بصوته الجهوري العريض، وثقافته الحوزوية، وتحصيله الذاتي.
صباح أمس؛ فاجأني محمد الحلال بورود اسمه ضمن شهداء جامع الإمام الصادق، ونحن في طريقنا إلى الكويت، ليكون السعودي الوحيد بين شهداء العملية الإرهابية.
اليوم؛ علمت بأنه كان ضمن الشهداء السبعة الذين نقلتهم طائرة كويتية أميرية ليُدفنوا في الجوار الظليل، في جوار علي بن أبي طالب في النجف.
(2)
وما رغّبني في التواصل معه؛ روح الأديب فيه، وذائقته الكلاسيكية الفاحصة. وذات درسٍ؛ أثار إعجابي بحديثه عن براعة الحريريّ المدهشة في تحويل النصّ المُتصنَّع المُتكلَّف إلى قطعةٍ فنية كأنها وليدة تجربة ذاتية. ليلتها؛ عمد إلى “المقامات” وراح يستشهد بالشعر الذي أنشأه الحريريّ لمقاماته الساجعة، ليُثبت وجود الفرق الواضح بين السجع المتكلّف النمطي وبين الشعر الحيّ.
ومثل هذه الذائقة الفاحصة لا يمكن بناؤها في وسط “طلَبي” نمطي إلا في وسطٍ مثل النجف، حيث يختلط العلم الصارم بالأدب المنفتح، ويتربّى طالب الحوزة على جدية العلم وجموح الخيال في آن. وهي البيئة التي أنتجت الجواهري وأحمد الصافي النجفي، وقبلهما محمد سعيد الحبُّوبي.
لكنّ الأدب لا يُسمن ولا يُغني من إيجار وفواتير وأثقال حياةٍ ماديةٍ حتى لطالبٍ لديه قدرٌ متقدّم من التحصيل. لذلك؛ لاذ بالتسبب فيما يبرع فيه. ولم يكن أمامه إلا امتهان الخطابة والتوكُّل والترافع في قضايا النكاح والطلاق وما يدخل في أعمال المأذونين الشرعيين.
كانت شقته في الدبّابية متواضعةً حدّ إشارتها إلى حياة العوز والحاجة، وربما العجز حتى عن سداد الإيجار. وفوق ذلك؛ كان في داخله ألمٌ لا يتحدّث عنه، على رغم كثرة الحديث حوله من قبل عارفيه.
ولد “الشيخ جعفر” في النجف، ونشأ فيها. وفيها ـ أيضاً ـ تزوّج من كريمة فقيه معروف لدى علماء الحوزة هو الشيخ علي الأحمدي الإيرانيّ الأصل المُقيم في النجف. وبعد اختطاف الشيخ من قبل السلطات البعثية سُجن الشيخ جعفر على خلفية التدابير البوليسية. ثم عاد إلى السعودية لتلاحقه شبهة اسم أسرته “الصفار” في ذورة نشاط ابن عمّه الشيخ حسن الصفّار في المعارضة.
وحين أُفرج عنه؛ وجد نفسه منفصلاً عن أسرته، بحكم توابع الصراع الخليجي الإيرانيّ في عقد الثمانينيات. وكلّ ما كان يعرفه، وقتها، هو تهجير زوجته وأطفاله من العراق إلى إيران، لينقطع التواصل تماماً بينه وبينهم.
ووقت تواصلي معه، أواخر الثمانينيات وبدايات التسعينيات، لم يكن يظهر عليه شيء من ذلك. كان “هرّاجاً” مزّاحاً تبرّأ منه حتى لسانه الذي يقول ما يمكن أن يُقال وما لا يمكن أن يُقال.
حبيب محمود
حولّي ـ الكويت
11 رمضان 1436
سيرة ذاتية |
- جعفر بن الشيخ عبدالحميد بن الشيخ رضي بن علي بن محمد بن ابراهيم بن فردان.
- الفردان المعروفة بالصفار أسرة علمية برز منها:
1 ـ جده الشيخ رضي بن علي (ت 1225هـ).
2 ـ الشيخ حسن بن علي (ت1335).
3 ـ الملا عبدعلي بن أحمد (ت1377).
4 ـ الملا موسى بن رضي (ت1429).
5 ـ الأديب جعفر بن صالح (ت1393).
6 ـ والده الشيخ عبدالحميد بن رضي (1398).
7 ـ الشيخ حسن بن موسى الصفار الخطيب والكاتب المعروف.
- ولد في النجف، العراق، عام 1376هـ، أثناء إقامة والده هناك.
- بدأ الدراسة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف وتتلمذ في المقدمات على يد: الشيخ عبدالله الستري البحراني، الشيخ علي المرهون القطيفي، الشيخ محمد بن منصور الستري.
- أنهى السطوح عند بعض الأعلام وحضر بحث الأصول عند السيد نصر الله المستتبط.
- امتهن الخطابة وقرأ أول مجلس له في البصرة عام 1388هـ.
- استشهد في مسجد الإمام الصادق، حي الصوابر بدولة الكويت، مع مجموعة من المصلين في عملية إرهابية.
- دُفن في النجف.