[كاتب وكتاب] الروائي الليبي إبراهيم الكوني: النفط ختم على قلوبنا فأصبنا بالعمى الروحي

هذا حوارٌ لم يتمّ على أرض الواقع، بل صُنِع من كتاب الكاتب. ووُلدت الأسئلة بعد ولادة الإجابات في الكتاب، ونموّها، وانتشارها. هو حوارٌ تمّ في تواصلٍ خاص بين القاريء والكاتب. إنها محاولة لقراءة فكر الكاتب، للتعرف إلى روحه، للتسلل إلى ما يكمن خلف سطور المعنى.

إعداد: هادي رسول

إبراهيم الكوني.. الروائي القادم من الصحراء الكبرى في ليبيا، الذي يرى في الصحراء فردوسًا و نعيمًا، الطارقي الذي لم تشغله طبيعة الأرياف السويسرية ـ حيث محل إقامته ـ عن التوغل في أسرار مجتمع صحراء وطنه الكبرى، حيث الطوارق مجتمع الحياة، و حيث الصحراء معمل للأسئلة الوجودية.

من المكان

سأبدأ معك من المكان. المكان هو جزء من تكوينك الروحي، ليبيا بصحرائها الكبرى، الصحراء و مجتمع الطوارق. الصحراء التي غيرها النفط. كيف كان تأثير الطفرة النفطية على مجتمع الطوارق في ليبيا؟

ختم النفط على قلب الإنسان، فأصيب بالعماء الروحي، فلم يعد في الوطن قيمة (كما رآه أسلافه)، ولكنه رأى فيه (بسبب الثورة النفطية) غنيمة، وعندما يرى الإنسان في العالم غنيمة، فهذا لن يعني مجرد تجديف في حق نفسه، ولكنه تجديف في حق الأبدية لا بد أن يستنزل على الخليقة العواقب.

تلازم

الصحراء والكوني متلازمان، ولعلي كقارئ لأعمالك لا أستطيع الفصل بينكما من فرط توحدكما؟

الصحراء في أعمالي ليس مكانًا جغرافيًا، لكنه ملكوت استعاري رديف لمبدأ الوجود بأسره.

هاجس

في رواياتك الأولى حيث البدايات، تحديدًا نزيف الحجر، ذهبت لسرد معاناة الحياة الفطرية، والصيد الجائر للغزلان، مستنطقًا فيها الغزال في سردية عاطفية بالغة. ما الهاجس الذي يسيطر عليك في مثل هذا العمل؟

لم يعد هذا الإنسان يخرج لاصطياد الغزلان بدافع الحاجة (الجوع)، ولكنه صار يقترف هذا العمل بدافع التسلية بعد أن كفته ثروات النفط شرور المجاعة، و التسلية لا تقف عند حد و لا تحترم الناموس، لأن شريعتها الإبادة و ليست الاستكفاء.

مجهول

الصحراء لدى الكوني، سر و مجهول و فردوس في آن، و كأنما هي مصدر سعادة، ما السعادة في رأيك؟

السعادة ليست في أن ننال، و لكن في أن نتخلّى، في أن نتحرر.

حكمة الطوارق

دائمًا ما تقدّم الطارقي – نسبة إلى الطوارق – في رواياتك بأنه حكيم و فيلسوف، و له فلسفة خاصة مع الحياة و تمظهراتها المختلفة، حتى في أبسط الأشياء و السلوكيات اليومية، يبدو أن لديك رؤية خاصة للمرآة؟

المرآة قرين نستطيع أن نعرف فيه أنفسنا، و لكنّا لا نملك إلا أن نجتنبه لأنه يذكّرنا بخطيئتنا.

فالمرآة تثنية. أي ازدواج. و الازدواج خطيئة دفعنا الخروج من الفردوس ثمنًا لها.

المرآة في كل الأحوال اغتراب. اغتراب عن الأصل و فرار وراء الصورة. اغتراب عن الهوية و بحث وراء السراب. اغتراب عن السجيّة و لهاث وراء الإغواء المتستّر في الدنيا. اغتراب عن ملكوت الرب، و طلب لسلطان الدنيا المسمّى في لسان الأمم شيطانًا.

فلسسفة

يا الله، أهذه فلسفة أم نبوءة؟ حسنًا،  كيف تستجدي نبوءتك؟

طلب النبوءة دائما تجربة لا تتحقق بغير الاغتراب.

مرآتان

من يملك مثل هذه الفلسفة / النبوءة، لابد و أنه يرى أشياء أخرى في المرآة غير الانعكاس الظاهري، ماذا ترى في المرآة؟

المرآة مرآتان: مرآة باطنة نرى فيها ظاهرنا. ومرآة ظاهرة نرى فيها باطننا.

صورتنا

أنت الآن تربكني كما في رواياتك تمامًا، تجعلني عرضة للدهشة و ملاحقتك بالسؤال. حسنًا، ما يفزعك و ما يدهشك في المرآة؟

يفزعنا أن نرى صورتنا في مرآة الظاهر، لأننا لا نرى سوى ظلنا. و يدهشنا أن نرى صورتنا في مرآة الباطن، لأننا لا نرى سوى حقيقتنا.

ذاكرة

يا إلهي! سأترك لك لعنة المرآة، متجهًا نحو الذاكرة. الروائي يتكئ على ذاكرته في إعادة سرد التاريخ، لذا أجدك تقول: ” الذاكرة خصم الزمان، مستودع الروح و الترياق الوحيد لمداواة الموت “، و كأن الذاكرة لديك هي روح الإنسان و حياة مضاعفة بالنسبة إليه؟

أن يكون الإنسان ذاكرة يعني أن يكون تاريخًا، و أن يكون تاريخا يعني أن يكفّ الإنسان عن أن يكون مجرد ” حيوان ناطق ” (كما أراد له أرسطو) لينقلب حيوانًا ثقافيًا، لأن نشاط الذاكرة الذي نسميه تأمّلًا (والذي نصّبته الفلسفات علّة للديانات كلّها) هو الذي أنتج تلك الأعجوبة التي أعطت الإنسان قيمة و المسمّاة: ثقافة !.

زمكان

التاريخ مادة زمانية، لكن أيهما يحوي الآخر، التاريخ أم الزمان؟

التاريخ دائمًا جوهر، والزمان لهذا الجوهر دومًا وعاء. الزمان هو النهر، و التاريخ هو ماء النهر.

الحرية

تقول: “الحرية عمل لابد أن يعبر جحيم الخطيئة كي يفوز بالشرعية “، كيف ينال الإنسان حريته؟

الحرية عنقاء لا تُنال على سبيل الهبة. الحرية التي يتطوّع إنسان و يذهب ليعلّقها على رقبة إنسان كما يعلّق الوسام ليست حرية، ليست حتى ظلًا لحرية. بل هي أشبه بمسخ الحرية. لأن الحرية تجربة دموية لن يعرف حقيقتها إلا من مارسها.

فرح

تقول أيضًا: ” الحقيقة بسليقتها ترفض الفرح، و لا تعرف إلا الأحزان دينًا ” أليست الحقيقة جميلة؟

سحر الحقيقة في التساؤل عن الحقيقة.

الحقيقة

كثيرون يدّعون أنهم يمتلكون الحقيقة، أين يجدها الكوني؟

إن الحقيقة في طلب الحقيقة لا في امتلاك الحقيقة.

وطن التأمل

تقول: ” المبدع لا يحيى في الأوطان بقدر ما يحيى في وطن آخر هو التأمّل ” و ما التأمّل إلّا سلوك نبوي. و كأنما النبي و المبدع يشتركان اغترابًا و تأمّلًا؟

الإبداع الحقيقي كالنبوّة، قَدَر، و الإيمان بالإبداع كرسالة أو كقَدَر هو ما يجعل من هذه التجربة مسألة حياة أو موت.

رؤية

لعل المبدع والنبي يشتركان في الرؤيا و الحلُم أيضًا؟

المبدع يعمل في منامه كما يبدع في يقظته، لأنه لا يجد فردوسه إلا في إبداعه، لهذا نجد أهل الإبداع يتغنّون بالحلم في كل العصور، لا لأنه رديف لغوي للمنام، و لكن لأنه الينبوع الذي يستعيرون منه رؤاهم.

موهبة

الموهبة للمبدع عرضة للخفوت و ربما التلاشي، كيف يحافظ المبدع على موهبته؟

الإبداع كالأبناء الذين لا يكفي أن تنجبهم بل عليك أن تتولاهم بالرعاية إذا شئت أن يفلحوا و لا يخيّبوا ظنّك بهم.

تفاصيل

يسلّط الروائي الضوء على تفاصيل في مجتمعه، و يوظفها في رؤيته السردية، من هذه التفاصيل ما يتعلق بالمقدسات و التقاليد، كيف تختصر العلاقة بينهما؟

القداسة عندما تتحول تقليدًا لا بد أن تنقلب عبادة.

اغتربوا

شاهدت لك حوارًا تلفزيونيًا قبل سنوات. في هذا اللقاء أشرت إلى موقع إقامتك الدائم في أحد الأرياف السويسرية. لكن لم تثنك الطبيعة الأوربية عن عشق الكتابة عن وطنك الصحراء؟

من يعشق الأوطان ليس أبناء الأوطان الذين سكنوا الأوطان، و لكن أبناء الأوطان الذين اغتربوا عن الأوطان.

خارطة ثقافية

الأعمال الروائية العربية تتكاثر في حضورها من ناحية النشر و التأليف، كيف تقيّم مسار الرواية العربية؟

في العشرين سنة الأخيرة شهدت الخارطة الثقافية العربية تطورًا مذهلًا من حيث الكم. أما من حيث الكيف فإن غياب الرؤية الفلسفية في هذا الجنس الأدبي ظلّ للأسف سائدًا. فمادام العمل الإبداعي عمل رسالي فإن طرح أسئلة الوجود الكبرى في هذا العمل يبقى شرطًا لازمًا.

‏‫قراءة

أخيرًا، تتفاوت عادة القراءة بين المتعة و المعرفة بين ممارسيها، ما توصيفك الخاص لعادة القراءة؟

طقس القراءة ليس عملًا من قبيل المتعة، ولكنه رحلة لزيارة محافل الحكمة.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×