الأقزام والعمالقة 2/2

سالم الأصيل

 

يأتي الدور، بعد غوليڤر، على إبراهيم، شخصية زكي نجيب محمود التي يسوق على لسانها تتمة نكته الأدبية في (قصة نفس).

إبراهيم الذي يحكي عن تلقيه هدية من صديقه؛ هي عبارة عن منظار يُضخّم الأشياء من إحدى جهتيه، ويُصغّرها من جهته الأخرى. يُضخّم ويُقرّب، أو يُصغّر ويُبعّد.

فَرِحًا بالمنظار، متجولاً مصطحبًا إياه في الطرقات، أخذ إبراهيم ينظر في الشارع والناس ومواقفهم، مرّة من جهته المُكبِّرة، ومرّة من جهته المُصغِّرة، مرّة يَكبُرون، وأخرى يَصغُرون، مرّة يكونون عمالقة، وأخرى أقزامًا. الأمر الذي لم يدهشه لَمَّا كانت تلك طبيعة المنظار التي عرفها وخبرها.

ما الخطب إذًا؟ هو ذلك الذي رأى إبراهيم بصحبة المنظار، المنظار الذي حَسِبَ أنه أفسد عليه حياته وقد عوّده على هذه التي عَدَّها “العادة السيئة”؛ أن ينظر إلى الناس نظرتين، واحدة تُبديهم عمالقة، وأخرى تُظهرهم أقزامًا، ما أفزعه من ملاحظة الفارق البعيد بين الرجل الواحد، مرّة عظيمًا، ومرّة صغيرًا، أو مرّة مُعظّمًا، ومرّة مُصغّرًا.

ثم ما لبث أن عاد يُعزّي نفسه، أن الذنب ليس ذنبه ولا ذنب منظاره، طالما كانت هذه “حقائق الناس والأشياء” التي لا يد له فيها.

مُطمْئِنًا نفسه من جزعها إلى أنه ما كان إلا واهمًا حين ظنّ “الكبير كبيرًا في كل حالاته، والصغير صغيرًا في كل حالاته”.

وهكذا أَلِفَ المنظارَ ونظرته الطبيعية للناس والأشياء. لكن ما ثقُلَ عليه حين ذهب إلى أضخم شوارع المدينة؛ “شارع العلماء”، حاملاً معه منظاره، وما أظهره له من فارق عند هؤلاء بين حالتي التعظيم والتصغير.

دون أن ينسى إبراهيم “إثبات واقعة” لعله رأى فيها مقتضى الإنصاف، قائلاً عنها إنها أذلّته ظانًّا فيها أنها من “خوارق الأجهزة الآلية التي لا تؤتمن في كل الظروف”، وقد كان أن وَقَعَ في شارع العلماء على أفراد بَدَوا ضخامًا من جهتَيّ المنظار، وأفراد آخرين بَدَوا ضئيلين من الجهتين. دون أن يرى في هذا بأسًا، لكن البأس الذي وَصَفَهُ مخيفًا يَكْمُنُ في: “أن يَصْغُر العظيمُ، أو أن يَعظُمَ الصغيرُ. لا لسببٍ سوى طريقتنا في النظر!”.

في ظني، وبعضُ الظن ليس إثمًا، إن هذا ليس منسحبًا على العلماء وحدهم، بل على كل مُرتفعٍ أو مرفوعٍ من الناس، أكان وجيهًا أيًّا كانت أسباب وجاهته، أوعالمًا في شتّى ضروب العلوم والمعارف، أو كل ذي شأنٍ في الناس.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×