[مراجعات: 11] محمد الماجد: بلا قطن، بلا شاش، بلا أدوية

محمد الماجد

 

حتى لو كان المحاور بيار أبي صعب طاهياً ماهراً، حتى لو استعار أصابع بونوا فولييه، فلا يمكن له أن يُنَضِج كل هذه الوصفات الأدونيسية الحرّاقة دون أن تطيش منه أو تختبل مقاديرها بين يديه، يبدو الجزء الخامس من الوثائقي مثل أحجار من التوابل المذعورة فوق منضدة بيار، فلا هو هيّج بها أرواح القِدْر، ولا هو أرجعها إلى دكّان أدونيس، ربما كان تقديره أن المزيد منها سوف يفسد الطبخة، ربما، خاصة وأن المفاهيم التي قام الضيف بعرضها في هذا الجزء تمسُّ جروحاً غائرة في جسد الثقافة العربية، تمسّها دون بَنْج يسكّن من ألَمها، شيءٌ يشبه النزيف الدائم بلا قطن، بلا شاش، بلا أدوية، وكأن السلطة طيلة التاريخ العربي لم تسلب حق التأويل الديني فقط، بل أدخلت – وبمهارة تُحْسَد عليها – العقلَ العربي إلى المسلخ فيما الجميع كان يتفرّج. زرقةٌ في وجه العقل، عَتَبٌ، كدمات، ومجاري المسلخ وعروقه المعدنية الأكثر احتفالاً بين الجماهير.

هذه صورة أولى..

ربما شكّلت اختصاراً لمجمل حديث أدونيس عن الرواية الأطول في التاريخ الإسلامي: ثلاثية (السلطة – الثورة – الدين). المفاهيم التي كَبُرت مثل كرة النار في أروقة البرنامج، وما إن بدأت في التدحرج أخذ لهبها بأذيال المشهد وراح الدخان يملأ المكان، “الربيع العربي” كان المحطة الأساسية في الحوار ، وملخص أعمال الربيع العربي بدأً برماد البوعزيزي – المقدمة الأكثر تراجيديةً – مروراً بمزادات القتل المجاني، وأسواق النخاسة، إلى النهايات السوريالية المفتوحة، لم يكن سوى (كارثة) و(إهانة) للجنس البشري بحسب أدونيس – يمكن أن نستثني المقدمة لأسباب موضوعية – ولكن النتائج تبقى كارثية بكل المقاييس، لم تكن سوى عاصفة من الإخفاقات المدمرة، تَركت العربي – أنظمةً ومعارضات – حائراً أمام ذلك الوحش الذي يتلبّسه، أمام ولعه الغريزي والأزلي بالسلطة وبأي ثمن!.

هذه صورة ثانية..

أما الصورة الثالثة فسأنتقل بها من الوصف إلى النقاش وطرح المزيد من الأسئلة فيما يخص العلاقة الملتبسة بين الدين من جهة، والسياسة والمرأة من جهة أخرى. هذه الصورة لا يسعها أن تبقى على وئام دائم مع أدونيس، من الصعب أن تبقى وراء الكاميرا لفترة طويلة معه، حرارة حديثه في كثير من الأحيان تنسيك عملك كمصور فتضطر لترك حامل الكاميرا وراءك، تسحب كرسي في الجوار، تجلس إلى جانب بيار محاولاً شدّ عَصَب الحوار إلى أعلى، ثم تبدأ في التحدث إلى أدونيس وجهاً لوجه:

لماذا علاقتك بالنص الديني في صيغته المعرفيّة متوترة إلى هذا الحد؟

ولماذا المعيارية التي تنتهجها في التعامل معه تبدو مختلفة عن تلك التي للنص الأدبي؟

ومع تسليمنا بأن كلاهما ضاربين في عمق التراث، ألا يمثّل ذلك قدْر من الازدواجية في المعيار لديك؟

هل جرّبت أن تحرر النص الديني من فضاء (السلطة) أولاً، لتعيد طرح ذات الأسئلة عليه من جديد؟

أليست اجاباته وهو في الحرية ستختلف عنها وهو في الحبس؟

ألا يمكن للعلمانية، أو للحداثة، أن تعقد صلحاً ما مع الدين بلحاظ أن هذا الأخير يشكّل أساساً متينا في الاجتماع والثقافة، وأنّ نفيه أو ابعاده بذريعة الحداثة سيجعل من سؤال الهويّة سؤالاً مؤرقاً وعصيّاً على الحل؟

وأخيراً

أحببت أن أنوّه بأنني ذكرتُ كل هذه الأسئلة متخفِّفاً من أسئلة أخرى متعلّقة بتخليص المرأة من الشرع الديني، ومن تلك المتعلّقة بفصل الدين عن السياسة، متجاوزاً أيضاً عن مناقشة ذلك الإخفاق الكبير للمثقّف “الرؤيوي” في توقّع مآلات الربيع العربي، على الرغم من مقدّماته المكشوفة، والخالية من أي غطاء فكري أو تنظيري.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×