سَفَرٌ أَنيْقٌ وضيافة فُرْدوسيّة

ليلى الزاهر

ليس الوفاء مقصورًا على قلمٍ يكتبُ شعرًا أو إزميل ينحتُ نجمةً في السّماء، وإنّما هو وَلاءُ القلوبِ للمكان الذي أحبّته، وتنفّستْ عشقه ثمّ فاحتْ المشاعرُ بشذا هذا المكان أثناء العودة لهُ فأسرع القلبُ بكتابة قصّة من نور أضاءت دهاليزَ الروح.

إنّني في كلّ مرّة أسيرُ في ذلك النّفق الذي يراه المسافرون طريقَ السعادةِ يجنح خيالي بعيدًا؛ أبصر قوافلهم التي أنهكَها الطريق وهي تشقّه لأقدسِ مكان على وجه هذه المعمورة، وأُبصر جِمالهم ونُوقهم وقد أرهقها السير، تحدج بعيونها نحو الطريق وهي تتململ المضي قُدما للأمام.

ينازعني خيالي كثيرا وما أُخاله إلّا شاهدا على الكثير من السنوات الضوئيّة الماضية؛ يجبرني على العودة للخلف قرونًا عديدة فيجعلني أسرد حفنةً من الكلماتِ تشهد على الشّوق العارم الذي مازال يقضّ مضجع أفكاري، وقد أعارني ريشة من الألماس ‏لتدوين مالذّ وطاب من الكلمات؛ يستنهضني فيقول: أتذكرين ذلك الرجل الذي قضى نحبه في الطريق إلى بكة؟

أو ربّما تستطيعين نظمَ كلماتٍ تفي برثاء امرأة تركت الحياة خلفها وجرّدت فكرها إلّا من لحظاتٍ تتسمّر خلالها أمام الكعبة المشرّفة ولكن صوتَ الموتِ فضحها بين المشرقين؟

هو حجر الرحى الذي عَلَق في أعناقهم لا يستطيع بلعَ المسافات!!                               

واصلتُ السير حتى انتهيتُ إلى مقعدي بجانب إحدى نوافذ الطائرة.

لقد سكن خيالي وهدأ روعه عندما سمع المنظومة المعتادة:

 (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنّا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى..)

 عاد مجدّدا يطرحُ الكثير من التساؤلات ويستخرج ما في جعبتي، فحلّقتُ مرة أخرى معه ومع أجنحة الطائرة وقد استسلمتُ لحبْكَته ‏التي يُريد نسجها، أو ربما كنتُ أنا أبحثُ عن نداء الإيمان في أعماقي؛ لأروي قصّة إنسانٍ أثخنته الماديات فأراد أن ينجو بنفسه في رحاب بيت الله الحرام حيث مكة المكرمة.

هذا ما اعتدتُ عليه عندَ السّفرِ إلى بيت الله الحرام، فما أن أصعدُ الطائرة إلّا وأثني على نظيري الإنسان الذي سهّل لنا ارتياد العالم بأسره في ساعات قلائل.

هذا هو الإنسان الحقيقي الذي استخلفه الله تعالى فغاص في علومه وسخّر الأرض لخدمته فغدتْ جبالها وشعابها وفيافيها أسيرة بين يديه؛ يستطيع قطعها من شرقها إلى غربها بيسر وسهولة.

كم يرشدني خيالي لطُرقِ عبارات الحمد والثناء على نعمة الوصول السريع بعد أن كادتْ تتصف بالمستحيل في قرون سبقتنا، فغرستُ جميعَ عبارات المديح والثناء لله تعالى وأزهرتْ سَكِينة واطمئنان في قلبي.

وكان جديرا بالذّكرِ أن أخبرَ خيالي اللحوح أنّ البشريّة قَطَعتْ قرُونًا عديدةً من الأزمنة، تعَارفَت الشّعوب من خلالها فصنعت لغات متعددة بأحرف مُختلِفة لا يعرف كنهها سوى من وضعها، ونشأت بين أحضانه، وجمعتها لغة السلام وأصبح التّسامح قاسما مشتركا بينها لاسيما في موسم الحج عندما يفرضُ اللون الأبيض سُلْطَته، ويتباهى بعنفوان شذاه وقد لاح من كلّ فجّ عميق.

تستحقُ مكة المكرمة أن أسرّها بأحاديث العاشقين، فإذا استعصت عليّ الكلمات سطعت أنوار جبالها البهيّة فقمتُ بتطريز أوشحة العشق لتنساب بين تقاسيم وجهي هيامًا يفضح القلب فيذوب العشق مثل جليدٍ مسّه شعاع الشوق.

تتحفني أراضي مكة المكرمة بسيل من الذكريات والأحداث والحكايات التاريخيّة التي تمخّض عنها هذا الرزق العظيم من الثمرات، وهذه الحشود الهائلة التي تطْرق شوارع مكة من كلّ حدب وصوب.

غادرتُ الطائرة بعد ساعتين من الزمن قضيتُها أناجي الله تعالى أن يُلهمني التّجرّد له في كلّ حين فالأبواب مُشرّعة والضيافة فردوسيّة، والسفرُ أنيق.

في مكة المكرّمة حياة جميلة، مُختلفة، تسمعُ أصواتًا بلغات مختلفة وترى أشكالًا تداهمك بغرابتها، مجتمع كبير لكلّ مذنب ومقصّر، وهو مُلتقى العبّاد والنّسّاك أيضًا، بل أنّه لهما معًا.

وقد يحسب البعض أنّ مكة بلد الاجتماع المدهش لكنني أراها شاهدًا تاريخيّا عظيمًا بدأتْ فصوله التاريخية حينما قام نبيٌّ من أنبياء الله وهو طفل رضيع بضرب الأرض بقدميه الصغيرتين فانفجرتْ بئرٌ عظيمة، سُمّيت زمزم وأعلنت ميلاد أم القرى؛ فاطمأنّ قلب هاجر بعد أن قطعتْ المسافة بين جبلين راهبين هما الصفا والمروة شهدا بعد ذلك الكثير من التهليل والتكبير من النّاس في كلّ حين.

في اللقاء بهما حياة لن تمحو من ذاكرتي حريّ بكَ وبي أن نتذكّر تزاحم النّاسِ وهم يسعون بينهما، ربما أدركوا أنّ الصفا والمروة شكّلت حدثا فاصلا بين الجدب والنّماء، وبين الراحة والعناء.

لابد أن أُفصحَ لكم بأنّ افتتاح العهد المكيّ كان على يديّ الأنبياء والرسل، فزهتْ مكة وافتخرتْ بشعابها عندما كان يقطعها نبي الرحمة محمد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وتشرّفت جبالها وسهولها بخطواته الشريفة.

ولابد أنْ أهمسَ في أذنك بأنّ نبي الله إبراهيم لم يخامره الشك بسلامة أسرته عندما ترك رضيعه وزوجته في بلدٍ مقفر، موحش، تذروه رياح الغربة لأنّه كان يمتلئ يقينا بقدرة الله تعالى على أن يجعله عامراً بنور الإسلام.

قال تعالى:

 (وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى‏ عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ) سورة البقرة 126

سوف أكمل سيري في رحاب أرض الحرمين، في الجزء الغربي من وطني تقع مكة المكرمة وفي قلبها يقع بيت الله الحرام الذي احتضن الكثير من الناس فوق مساحات شاسعة، ولم يقْفل أبوابه قط أمام ضيوف الرحمن.

  وقد تأخذك قدماك متجهةً بك نحو الشمال الشرقي من المسجد الحرام فثمّة معلم عظيم شهد حدثًا تاريخيّا عظيما حيث جبل النور الأشمّ وقد تنصت لتستمع لأصوات بلغاتٍ متباينة تحثّ السير وتسرع الخطا تتسابق للوصول إلى المكان الذي شهد ولادة الإسلام في مهده حيث غار حراء، وجبريل واقفا يُمْلي المواثيق والعهود على أشرف خلق الله تعالى ويفْتتح العهد الجديد بين جدران غار حراء بـ اقرأ.

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ،

(‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)

 سورة العلق: 1

وظلّ هذا الأمر الإلهي خالدا ينصاعُ له العلماء وطلّاب العلم.

وقد تنحرفُ قدماك نحو الجهة الشرقية من المسجد الحرام المُطلّة على مشعر منى غربًا لترى الأثبرة أو ما يُعرف بجبال ثبير، حاولت الصّعود واستنفرت جميع طاقاتي لأشم بين منعطفاته الدّاكنة شذا عطر برّ الوالدين.

يُسمي أهل مكة هذه السلسلة الجبليّة مهبط الملائكة الأول ويتناقلون حكايا رائعة خطّها التاريخ بمداد التّضحية العظمى.

في هذا المكان عجزت السّكين عن إمضاء وظيفتها وأصبحت بردا وسلامًا فوق جيد إسماعيل.

يقول الله تعالى

 (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) الصافات: 102

قمّة الفكر وإدراك الحياة الحقيقية تلك التي تجعلك تبرّ بوالديك وتضحّي من أجلهما بحياتك كما هو صنيع نبي الله إسماعيل عليه السلام.

وختاما (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) في هذا المكان نزل كبشًا من الجنة كان يرعى بين رياضها الغنّاء وأصبح كبشَ فداء لإسماعيل عليه السلام.

لن نقف كثيرا عند هذا الجبل، سوف نغادر جسور المعاناة في السير بين تعرجاته إلى ضفّة زاد وهْجُها فهي قطعة من الجنة، لا ينسلخ عن تفكيري كيف تغير لونه كما يقول التّاريخ كان أبيض اللون وغدا أسوداً.

أيّها الحجر الأسود أو ربما الأسعد:

 صامدٌ أنت بجوار الكعبة المشرّفة، أنت هُنا منذ زمن سحيق وأنا بجانبك أرنو لمقام إبراهيم مثل شاعر اغترف من قلبه وأفكاره واستلهم منك الشّموخ فاسمح لي بخلوة مع الله تعالى في هذا المقام العظيم، ذلك البناء الذي يبعث السلام والطمأنينة في القلب.

لم تنتهِ قصّة الجبال في مكّة بعد، أخالك تفهمُ جيدا قصّة مرسى العنكبوت التي غيّرت مجرى المفردات من:

(أوهن من خيوط العنكبوت) إلى: أقواها. هذا هو الزمن المشْحون بالمتغيرات حيث تقف الرواسي شامخات يتصدّرها جبل ثور.

هناك غار ثور تجده على بُعد نحو أربعة كيلو مترات في الجهة الجنوبية من المسجد الحرام، أرى في ذلك المكان خطوات قريش المُشركة وهي تتبع الرسول الكريم وصاحبه فحطا رحلهما في هذا الغار.

حديثُ الأقلام صالَ وجالَ في أعماقي المُلتهِبة ولعله سطّر كلمته الصادقة عندما أوحى لخيالي الممتلئ رسمًا: فليأتوا بقلبٍ مثله إن كانوا صادقين وكأنّ قلبي معهما يدعو لهما عندما حانت ساعة الهجرة.

من يتأمل مكة المكرمة من كثب لن يجدها إلّا متوهجةً بأنوار الدنيا، يتّقِدُ هواؤها بحرارة المشاعر والشوق خاصة لأولئك الناس الذين حالفهم القدر للوفود مرة واحدة في أعمارهم.

نظرتُ إلى الطرق المؤدية للمشاعر المقدسة فتلألأت الشوارعُ أمامي ومع توهّج الشمس الذي ارتطمَ بظهري كانت هناك لمسة حانية تشعرني بالسعادة.

يا ويل الأقلام قد فضحتْ بنات القلب ومزّقت أوْداجه صدقًا وحبّا، وأخرجته من مكانه تُحادثه وتُحدّق به، وتصوغ له عنوانا خارقًا للعادة (أعشق مكة المكرمة) بكل تفاصيلها. ويكفي المكانُ فخرًا أنّه مُلتقى النُّسّاك، ويعزفُ فيه العبّاد آيات السَّكينة والرضا.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×