عن الشيخ الموسى.. طفلاً ويافعاً.. فدكتوراً…!
حبيب محمود
الزمان؛ مُنتصف السبعينيات. المكان فريق صغير اسمه “لـِرْحَيلْ”. والذاكرة التي تُشبه الخيال؛ تحاول رسم منزل صغير وبسيطٍ جداً “متغصغص” بين بيت “حجّي حسين البحراني”، و “دالية” صغيرة، فيها بضع نخلاتٍ. و “الدالية” ـ عند أهل القطيف ـ أصغر من أن تُصغَّر بـ “بُسيتين”.
وكان حول مسوّرة العوامية بضع داليات متناثرات، ونخلاتٌ أغلبها من صنف “البكيرات”، وفي الصيف؛ نضرب بحجارتنا عذوقها لتُساقط علينا “الهامد” من ثمرها “الخنين”.
وفي ذلك البيت الصغير؛ كان بيت “علي امُّوسى” ـ أبو حسن. وقد باع أبو حسن بيته، وبدأ في بناء بيت جديد في الجزء الغربي الشمالي من “الجميمة”. أظنّه كان مقابلاً لنخيل “العوينة”، وعن غربها “ضلع” ماء، لعله ساقية أو مرمى. والمهمّ هو أن “علي” صحبني من “لِرْحَيلْ” إلى بيتهم الذي ما زال يُبنى وقتها. وعند “الضلع” تنمّرت لديّ وحشية ضدّ الضفادع المسكينة. فيما تعفّف الولد الصغير عن مسّ هذه الكائنات اللطيفة.
ولدٌ خَيِّر، بما تعنيه السكينة من معنىً. وأظنُّ أن ذلك كان شأن بيتهم كله. وأظنُّ أنه الثالث بين أربع أخوة ذكور. وفي محيط الحيّ الذي عشنا فيه طفولاتنا، كان “علي” من بين الأتراب الأبعد حتى عن فرط الحركة الشائع في أطفال “كربلاْ” و “الزّواوْرهْ” و “لِرحَيلْ” و “الجويهرية”..
وهذه كلها أسماء “فرقان” صغيرة، عُرفت ـ لاحقاً ـ باسم “فريق كربلاْ”..!
في المدرسة كان اسمه لافتاً، فهو سميُّ والده. وفي فورة الثمانينيات، تأثّر ـ كما تأثر ذلك الجيل ـ بما يجري. وذلك طبيعيٌّ. إلا أن اليافع “الرساليّ” كان متمسّكاً بوداعة روحه وحال مطبوعٍ عليه.
كأن الشاب اختفى من انتباهي لسنواتٍ طويلة جداً، حتى وجدته محاضراً في منتدى الثلاثاء، العام 2009، عارضاً أطروحة الماجستير خاصته، وكان عنوانها “شعرية القلق في شعر بدر شاكر السياب”، وأدار تلك المحاضرة الشاعر بدر الشبيب.
ومن حسن الصُّدفة أن نجل الشاعر السياب المهندس غيلان بدر شاكر السياب؛ شهد تلك الليلة، وقدّم تعليقاً. ووقتها كان المهندس السيّاب من العاملين في تنفيذ مشروع “إثراء” وهو قيد الإنشاء.
حضرتُ تلك المحاضرة معجباً ـ ابتداءً ـ باهتمام رجل دين معمّم بأدبٍ مثل أدب السياب، وأظنُّني ذكرتُ ذلك عشيّتها. وعلة هذا الإعجاب هو اشتغال المشايخ بالحداثة، وعناية الشيخ الموسى ـ عيناً ـ بحداثة بدر شاكر السيّاب، بما شُحن أدبه من تقلّبات ما بين اليسار وما يُقارب الوسط. وحين يستوقفُ شيخٌ محافظٌ النصّ والناصّ، في مسألة هي أقرب إلى سيكلوجيا الأدب؛ فإن في الأمرِ ما يُثير احترام التسامح.
هنا؛ لا يتفكّك النص على أساس ما يجوز وما لا يجوز في مضمون النصّ، ولا سيرة الناصّ. بل على أساس النقد الأكاديميّ المنهجيّ حصْراً، وبما تؤول إليه دراسة “التقانات” فنياً، ودراسة “القلق” نفسياً. ومن أجل إيضاح الصورة على نحو أفضل؛ فإن عنوان الأطروحة كاملاً هو “التقانات الحديثة في القصيدة العربية”، وما كان شعر السيّاب إلا نموذجاً لـ “التقانات” تحت مشرحة التفكيك والاستنطاق.
حسناً؛ وبعيداً عن تفصيلات ما جرى في أضاميم الأطروحة نفسها، وما توصّلت إليه، وما خاضت فيه وحوله؛ يبقى الإعجاب قائماً.
وما بين ماجستير 2009 ودكتوراه 2024، فارقٌ زمنيٌّ يكفي لإدراك سنّ التكليف الشرعيّ..! وهذا سببٌ آخر من أسباب الإعجاب بما عليه الشيخ من مثابرة وإصرار، ليس لأنه أراد الحصول على لقب “دكتور”؛ فذلك سهلٌ يسيرٌ على كثيرين حملوا اللقب، بل لأنه اختار الطريق الأكاديمي السليم.
الصورة من موقع منتدى الثلاثاء