ماذا قدم مسلسل خيوط المعازيب؟

حمد الناصر الحمدان

تَعودت الناس التجمع بعد إفطار كل يوم من أيام رمضان، لمتابعة ما يطرح من مسلسلات تلفزيونية، بقصد الاستمتاع، وكسر ما قد يحدث من متاعب يومية، جراء الصيام والعمل اليومي.

غير أن موسم شهر رمضان لعام 1445هـ، شهد شحاً واضحاً، في الفعاليات الفنية و (تحديداً) التلفزيونية (كماً ونوعاً) بشكل مختلف عن الأعوام السابقة. ولكن ـ الأعمال الجادة والأصيلة لا تنقطع، ولو خليت لخربت، كما يقال ـ فقد اخترق هذا الجفاف، وعوض عن ذلك النقص، عمل إبداعي متميز، عرفوه بمسمى “خيوط المعازيب” الذي طُرح عبر (محطة تلفزيون أم بي سي). ولو أضيف هذا العمل إلى مسلسل “العاصوف ” فيمكن القول: إنه قلما شهدت ساحتنا الفنية أعمالاً درامية مماثلة لهما.

وتكمن القيمة الأساسية لهذا المسلسل، في كونه مجسداً لتجربة حياتية عملية واسعة متنوعة لمنطقة لها خصوصيتها على المستويات (الاقتصادية والاجتماعية) كجزء مهم من الوطن. ويأتي المسلسل توصيفاً، لمرحلة مهمة في حياة أهل محافظة “الأحساء”. التي تتميز بتنوع سكاني، ولأنها مدينة حضرية، وتعد نموذجاً فريداً للتعايش المذهبي. ولأنها كانت مركزاً تعليمياً متنوعاً قبل مرحلة التعليم الرسمي.  والأهم في ذلك، لما تجود به هذه المنطقة من مردود اقتصادي.

والأحساء كونها تجمعاً حضرياً متنوع الانتماء، جذبت إليها العديد من الأطراف الأخرى لوفرة الرزق فيها، ولطبيعة الحياة فيها، وحالات تداول الحكم فيها وتنوع التجاذبات السياسية، فقد هيأ كلّ ذلك الظروف الملائمة، لقيام حرف عديدة ومهن يدوية. كان أشهرها صناعة البشوت.  

ولوفرة مياه الأحساء، وكثرة نخيلها وتنوع انتاجها الزراعي. ولخصائصها (الجوـ سياسية) كانت تعتبر المفتاح الاقتصادي والسياسي في فترة زمنية معينة للمناطق المجاورة لها. وكان يقال: “من يسيطر على الأحساء يمكن أن يسيطر على نجد ومناطق الخليج” لكثرة عائداتها الاقتصادية.

ويؤكد المسلسل (الذي كُتب قبل 24 عاماً حسب رواية كاتب النص)، أن هناك كنوزاً ثمينة إنسانية متنوعة من تجارب شعبنا تمتد على مستوى الوطن، صالحة للأعمال الدرامية. ولكنها لم تطرق بعد!.

ولعل الفرص تُتاح مستقبلاً، لغربلة هذا المخزون وصياغته بأعمال فنية، لكي نتعرف من خلالها على لهجات المناطق القديمة وعاداتها، التي أصبحت قريبة من الاندثار. وبالتالي نخرج من هيمنة نمطية “المركز أو العاصمة” فيما يخص اللهجة أو العادات، التي أشار لها الأستاذ “ميرزا الخويلدي” فيما كتبه عن مسلسلة “خيوط المعازيب” في جريدة الشرق الأوسط.

وللوقوف على مسببات مثل هذه الهيمنة النمطية. أعتقد أن سطوة أي نمط على مراكز الاعلام والفن والنشر، مردها إلى عدم توفر الكوادر الفنية القادرة على خوض تجارب ثقافية بخصوصية معينة، يمثل أحد الأسباب المهمة لذلك. انطلاقاً من هذا السبب، كنا نتمتع بلهجة أبناء المنطقة الغربية، عندما كانت هناك عناصر قادره على تأدية هذه الأدوار مثل: الراحل حسن دردير والراحل لطفي زيني، والأجيال المعاصرة لهما. ولكن، بغيابهما، خفت هذا الصوت الفني.

وفي هذا الموسم، عندما غامرت ثلة رائعة من الممثلين بشجاعة (واغلبهم شباب ظهروا على الشاشة لأول مرة). معززاً ذلك بتوفر نص جيد وقابل للحياة، بجهد الممثل الأستاذ حسن العبدي. مدعوماُ بتوفر عناصر الابداع الفنية المناسبة، المتمثل بجهد كل الفنيين على اختلاف أدوارهم في هذا المسلسل. وبدعم مالي من محطة التلفزيون الداعمة للعديد من الأعمال الدرامية والكوميدية مثل: (العاصوف وطاش ما طاش وغيرها من الأعمال الفنية). في هذا الظرف المكتمل نوعياً، حصلنا على منتج ” خيوط المعازيب ” بشكل متميز. والمبهج أن مسرح أحداثه وانتماء أبطاله “واحدة من أهم مناطق الأطراف. كما رغب الأستاذ ميرزا الخويلدي” حيث، أخذت الناس تتحدث عنه بشكل مختلف. ففي تفاصيل هذا العمل، ظهر العمق التاريخي للهجة الاحسائية، والفلكلور المحلي والتراث واللباس والطعام وطريقة الحياة لهذه المنطقة” التي كانت سائدة في وقت الأحداث.

ورغم ما قد يعتري العمل من نواقص. أو ما قد تنشأ بحقه من ملاحظات ـ وهذا أمر طبيعي في أي عمل فني بهذا الحجم ـ فإن المسلسل يبقى، محطة فنية متميزة ساهمت في اثبات جزء من نمط حياتنا الماضية، وساعدت في تشريح بعضاً من هويتنا الوطنية بتسلسلها التاريخي.

ولعله من المناسب، أن يمثل هذا العمل الرائع مدخلاً لأعمال مستقبلية غنية بمعطياتها، وواضحة برمزية المكان والزمان، لتشمل بقية أجزاء من شرق بلادنا، بأفراحها وأتراحها ونوع نشاط الناس وعاداتهم وقيمهم. مثل: مضمون رواية “شيخة” للكاتب “علي حسن أبو السعود”. التي تتناول فترة مهمة من تاريخ المنطقة، بصيغة تاريخية وعاطفية (1). وما زالت تحتفظ بكينونتها وأصالتها المكاني والزماني.

وبغية الربط بين أحداث مسلسل (خيوط المعازيب) وبين تأصيلها بزمانها ومكانها وخصوصيتها، بنى الشباب مدينة تقليدية مماثلة لمدينة الهفوف القديمة. واستحضروا نمط الحياة وأنواع الأكل السائد آنذاك، مثل: (العيش الأحسائي والخبز الأحمر والملابس الشعبية، وغيرها من التراث الشعبي القديم). لقد حرصوا على استحضار اللهجة القديمة بكل مصطلحاتها وأمثلتها وحكمها. رغم أن عمر واقعنا الفني على اختلافه، وتجربتنا الفنية المحلية بمجملها، تعتبر قصيرة، وخصوصاً أعمال الدراما، قياساً بتجارب فنية أخرى.

لقد وفق الدكتور حسن مدن، حين وصف المسلسل: بـ “أنه يشكل نقله من الدراما السعودية والخليجية عامة، حيث نجح في الخروج من الدائرة النمطية لكثير من أعمال الدراما الخليجية، إن لم يكن لغالبيتها التي تدور أحداثها وحواراتها في الفلل الأنيقة والسيارات الفارهة”. وفي هذا المنحى وهذا الاتجاه، يمكن إضافة، طغيان التهريج على اعمال المسح، وسطوة ظاهرة الميل في جًل الاعمال الفنية نحو الغوص برذائل الخيانات والمؤامرات وأعمال الشر المصطنعة والمعزولة عن واقعها التاريخي واسبابها الاجتماعية.

وأتمنى أن يحالفني التوفيق بمعارضتي لرأي الأستاذ محمد العباس في مقولته: إن “البطل هو المكان الرئيسي في المسلسل” ولكنني أضيف في هذا الصدد رأي آخر مخالف، مفاده أن “المكان والزمان هما بطلا المسلسل” لما بينهما من وشائج قوية وتداخل لا يمكن الفصل بينهما. وهذا انطلاقاً من الادراك التام، لكون التاريخ لا يتكرر بسماته الخاصة وشخوصه وآلامه وبهجاته. وهو الذي يضفي على المكان نفح الصيرورة وطابعه الزمني. مع تقديري ـ المُشدد ـ على الأدوار الذي قام به كلٌ من ساهم في إنجاز العمل بهذا الشكل المتميز والمختلف، مهما كان موقعهم.

أما واقع أحداث المسلسل، فهي تشيء من ناحية الزمن، إلى أنها وقعت بعد مرحلة اكتشاف النفط في وطننا وتصديره إلى الخارج، وتحديداً ما يقارب من “أوائل الخمسينات من القرن الماضي”. حيث بدأ تشكل مرحلة (اقتصادية واجتماعية وسياسية) وولوج البلد ـ عموماً ـ في بداية مرحلة مغايرة عن السابق، حيث مست هذه التغيرات نشاط الناس ووعيهم وشكل حياتهم. وفيما يتعلق بجنينة الوعي وبداياته، من خلال الدور الذي قام به “جاسم” التي أداه الممثل الجاد والمثقف “إبراهيم الحساوي” والتوجه للعمل التوعوي الذي قام به داخل المقهى الشعبي، كنموذج لهذا التغير(2).

طبعاً، تغيير البنية الاقتصادية الجديدة في تجربة بلادنا، على حساب اضمحلال وتقلص التشكلات الاقتصادية الاجتماعية السابقة، بسبب استخدام آلات الإنتاج الحديثة، وبالذات في مرحلة النفط. هز مجمل الحالة التركيبية في المجتمع. وقلص الفرص الوظيفية، مما جعل قطاع واسع من الفلاحين الفقراء وأبناء البادية والأجراء والعاطلين من مختلف مناطق الوطن، يتركون مناطقهم وأعمالهم السابقة، لأسباب مختلفة، ويلتحقون بقطاع النفط الحديث، لاستقرار العمل وثبات الدخل الشهري، ولأن العمل بشركة البترول هو الأقل مشقة من أعمالهم السابقة، وأفضل دخلاً من أجورهم الموسمية الغير ثابته. والملاحظ في هذا المجال، أن عمال القطاع النفطي الذين التحقوا بمواقع النفط في بداياته، قد شكل أبناء واحات الأحساء والقطيف النسبة المرتفعة من المجموع العام للعاملين.

تعدد وتنوع القراءات لهذا العمل:

المحاولة الأولى..

بطبيعة الحال، ليس المطلوب من أي نص فني ابداعي، تقديم التحليل الشامل الكامل للمتلقي في أي موضوع. وخصوصاً، ما يتعلق بمسار أي مجتمع في تطوره التاريخي. وإنما هذا الدور، يمكن أن يؤديه أطراف أخرى قريبة من التخصص. وقد يكون تحليل العمل الفني أحد الجسور لذلك. الخلاصة، أن الفن لن يحل مكان المحلل والمشخص للواقع واستشراف المستقبل. وفق ما تحدده أدواته في التحليل المرتبط بتوجهات هذا الناقد.

مع ذلك، يمكن أن يقدم الفن الجيد، جملة من الدلالات والايحاءات واستقراء الواقع ومس الجوانب الهامة والحساسة، عبر أدوات متعددة ومتنوعة. جراء ذلك، يمكن أن تختلف الآراء تجاه هذا العمل أو ذاك، ويمكن أن تتعدد القراءات حسب الأدوات النقدية لصاحب الرأي النقدي.

وبغض النظر عن مقاصد كاتب نص “خيوط المعازيب” في توصيفه للحياة في ذلك الزمن. فيبقى الاختلاف بشأن العمل شأن مشروع للجميع. ولكن، لابد من التنويه إلى أن تعدد القراءات وتنوع الاجتهادات تجاهه. لا يقلل من شأن المشروع، ولن يمس ما به من إيجابيات. بل بالعكس، فهذه المحاولات الجادة تعطي العمل قوة ومتانة، كدليل على الاهتمام به، وأنه ـ فعلاً ـ قدم نفسه للمتلقي وحظي على اهتمامه وفرض حالته على المشهد الفني، وخصوصاً النخب الاجتماعية.

من هذا التجلي. لعل إحدى المحاولات الهادفة لسبر ماهيات هذا العمل، القائمة على قراءة ظواهر النص، يمكن أن تضعنا على حدود الماهيات الظاهرية السطحية للصراع في المجتمع، مما يفضي إلى قناعة البعض، على حصرها في إطار ثنائيات تعودنا عليها في حياتنا اليومية. والتي تنطلق في محورها الأساسي من المقاربة بين (الخير والشر، وبين القديم والجديد، وهكذا دواليك!). وهذا الاستنتاج، ظهر بأشكال متعددة في المسلسل، منها:

أولاً: ظهر هذا المنحى التصادمي في تطور نشاط الحرفة الأكثر شهرةً في منطقة الأحساء، المتمثلة في صناعة “البشوت” بين شكلها القديم، القائم على الأعمال اليدوية في الأطر العائلية. وبين طبيعة العمل الحديث المعتمد على الألة في أعمال الحياكة والتطريز. الذي ضيق الخناق على عمل المعازيب الآخرين، الأقل اقتداراً على استيراد هذه المكائن. وسهل تمركز الرأسمال في يد من يملك وسائل الإنتاج الحديثة. وفي وضع التجربة في المسلسل، يمكن نجاح المصانع الحديثة بشكل أفضل، لو توفرت إدارة سليمة للمشروع، بعيداً عن الاعيب المعزب “أبو عيسى”. كما حدث في مجرى الاحداث.

ثانياً: وفي شكل آخر، تجلى هذا الصراع الظاهري، كما فُهم من النص، من خلال شيطنة وقسوة بعض المعازيب (الملاك) مع عمالهم وكل من حولهم. وبين المعاملة الحسنة والطيبة والكلام المعسول المجامل من البعض الآخر لعمالهم. وظهر هذا في إبراز الفرق بين سلوك “أبو عيسى” الذي قام بدوره الممثل القدير “عبد المحسن النمر” صاحب التجربة الفنية الغنية. في كل تصرفات هذا المعزب وتعاملاته مع الكل في محيطه الاجتماعي. وبين دور” أبو موسى” الذي قام به “سمير الناصر” مجسداً طيبة المالك المرن العفيف، حسن التعامل مع العاملين في معمله على اختلافهم.

ثالثاً: والوجه الآخر من مظاهر التباينات الاجتماعية، وضح بطيبة الفنانة ابنة البلد “لبنى أبو خمسين / إم أحمد” وهي تمتح في دورها من اللهجة الإحسائية القديمة، وتنضح بجسارتها بحججها مدافعة عن حقها وحق بعض النسوة، لصد ظلم زوجها ” أبو أحمد” والدفاع عن إحدى زوجات “أبو عيسى” وهي إم فرحان.

ويمكن إضافة الأدوار المعبرة عن النموذج الشعبي التلقائي، بسلوكيات أبناء البلد الخيرين الطيبين و(الغلبانين). التي أداها الفنان (فيصل الدوخي/رويشد) باقتدار، وكذلك الفنان (علي الشهاب/معتوق” وهذا النمط الملائم للقيم السائدة بمثل هذه التجمعات الصغير.  

رابعاً: وعلى هذا الخط، أبرز النص مواقف “فرحان” ذلك الشاب المتهور المغامر لصد ظلم “أبو عيسى” وغيره من الجشعين في المجتمع، كمدافع عن الخير ضد الشر، لدرجة، أن طاقته الحماسية وجذوة انتقامه دفعتا به إلى ارتكاب جريمة اختطاف فتاة، لا ذنب لها، وإنما جريرتها كونها ابنة الجبار “أبو عيسى”. دون الخوف من ردة فعل المجتمع، ومن أجهزة أمن الدولة، التي كانت مصدر خوف ومهابة للجميع في حينه، وبالذات بالمقاطعة الشرقية من الوطن.

أما موت بطل المسلسل “أبو عيسى” كخاتمة للمسلسل، واغلاق ملف هذا “الجلاد” بهذه الطريقة البسيطة التي نفذها “أبو أحمد” بعد أن استدرجه “فرحان” للمزرعة، انتقاماً منه، لدور “أبو عيسى” في مقتل ابنه غرقاً بالعين. فهذه الخاتمة، مثلت ـ أولاً ـ ترضية لعواطف المشاهدين، واستجابة لأمنياتهم لمثل هذه النتيجة لبطل المسلسل الرئيسي، وبنفس الوقت، يعدُ هذا التبسيط في عملية الاغتيال وما شابها من ثغرات أو خلل، أحد نواقص السيناريو.   

القراءة الثانية، محاولة أخرى

التعارض المناسب مع القراءة الانطباعية السابقة المُعتمدة على رصد ظواهر النص، يتمثل، بمحاولة قراءة مغايرة، لجوهر وطابع الصراع بشكل موضوعي. وبهذا المنهج وعبر هذا الاسلوب، يتبين أن طبيعة الصراع الأساسي والحقيقي في هذا المجتمع الصغير (الأحساء) المرتبط بصلات بنيوية متعددة ومختلفة مع من حوله من مكونات، بأنه كان صراع طبقي “مصلحي” بامتياز. وقد ظهرت سماته بأشكال معينة قبل مرحلة النفط بين مكونات المجتمع الاحسائي، بينما الشكل الآخر، فيعبر عن مرحلة ما بعد اكتشاف النفط، وظهور مسار تنموي (اقتصادي اجتماعي) مختلف. لذلك، كان هناك صراع في المجتمع (على مستوى افقي، وآخر على مستوى طولي). يمكن رصدهما على الشكل التالي:

أولهما: ثمة، صراع عارم بين منظومة الاقطاع وشبه البرجوازية الناشئة في مراحل ما قبل البترول وما بعدة، وبين أنواع العمال والأجراء من الفلاحين عموماً، بما فيهم صغار السن، الذي دفعت بهم الحاجة الاقتصادية (لأسرهم) إلى سوق العمل (مهما أبدأ بعض “المعازيب” من رقة وليونة في أساليبهم) فيبقون هم أرباب العمل (الملاك) يغتصبون قوة عمل الآخرين ويزيدون من شقائهم، لتزداد تجارتهم على حساب الشغيلة الذين يعملون عندهم، ولو تغيرت أساليبهم.

ثانيهما: أما الوجه الآخر للصراع في المجتمع، فيتمثل، بحدة المنافسة الاقتصادية بين الطبقات المهيمنة على الاقتصاد والمتنفذة اجتماعياً، عبر أساليب ملتوية وطرق غير شريفة. بلغت محاولاتهم المتواصلة أشكالاً من التصرفات الغير أخلاقية، بغية تدمير الطرف الأضعف في المنافسة، واقصاءهم اقتصادياً واجتماعياً. ومحاولة تمركز الرأسمال في يد الأقوى، ليشمل ذلك، محاولة الاستحواذ ـ بكل الطرق ـ المزارع والعقارات ومصانع “البشوت” والزوجات. ومحاولة الوصول إلى المرافق الحديثة الناشئة مع شركات النفط ونمو أجهزة الدولة الحديثة. وهذا يقدم الدليل على أن اللهث من أجل زيادة الربح، يدفع بهؤلاء إلى ارتكاب المزيد من الجرائم والحماقات بدون رحمة إذا فُقدت الضوابط، على حد تعبير بعض علماء الاجتماع.

إيقاع الأحداث في المسلسل

يُظهرُ المسلسل واقعاً مؤلماً على مستوى المجتمع. حيث دفع هذا الصراع (الاقتصادي الاجتماعي) وتزايد الخسائر والانهيارات الاقتصادية في هذا الحيز الاجتماعي، العديد من الشباب للالتحاق بشركة النفط الحديثة، بحثاً عن الرزق، على حساب اسرهم ونشاطاتهم الاقتصادية المنهارة، التي تحولت إلى رماد، وتغيير مكانهم بمكان آخر، ونمط حياتهم بأنماط أخرى غريبه عليهم، رغم ما قد يكون بها من إيجابيات. والنموذج العملي لذلك، الخطوة التي أقدم عليها “أبو فرحان” عندما سجل بالشركة، وما لحق به من دمار شخصي أسرى لاحقاً، لبعض الأسباب التي لم يختارها. ومع أن معالجاته لم تكن كلها صائبة، كما أشار لذلك الدكتور “حسن مدن” حول الملاذ الذي اختاره أبو فرحان ليخرج من صدمته. إنما كانت حالة تدميرية له على أكثر من مستوى.     

وتمتد وطأة الفقر والبحث عن لقمة العيش، لحماس الشاب “حسين” ليكون جاسوساً رخيصاً لصالح أبو عيسى” كما فعل ” أبو رغال(3)” مع جماعته لصالح الأجنبي زعيم “الحبشة” الغازي لأهله ووطنه. فقد أدى “حسين” هذه المهمة بحماس لا نظير لها من أجل لقمة العيش الرزيلة، رغم الاذلال الدائم الذي يلقاه من قبل مُشغله. ولم يتردد (المعزب) برفضه وتحقيره عندما تقدم بخطبة ابنته “فاطمة” للزواج منها، لوجود فوارق اجتماعية، تجسداً لمفهوم عدم تكافؤ النسب بينهما.

ولنفس السبب يتكرر رفض “أبو موسى” للشاب “أحمد” الذي كان يعمل معه بإخلاص وأمانه، عندما رغب بالزواج من ابنته “رقية” مع أنه كان من أشد المعجبين به ومن المقربين إليه. بينما على النقيض قام “أبو موسى” بالتقرب من الشاب الفنان “جواد” بدون مبرر واضح، مع وجود ملاحظات عليه من رجل الدين الذي ظهر بالمسلسل، كونه يمتهن الفن، دون أن يقدم النص مبرراً مقنعاً وشافياً للمتلقي لهذه الخطوة، عدى استناد الأب إلى النذر الذي سبق أن أطلقته إم رقية في حياتها على “أن تزوج ابنتها الوحيدة على حمار”. والأخذ بهذا، يعد من المبررات الغير كافية والغير مقنعه. لا سيما أن منطقة الأحساء في ذلك الوقت، كان للفن، وبالذات الشعبي، شأن مشهود وملموس هناك. معززاً بما كانت تزخر به المنطقة من مدارس تعليم متنوعة، بما فيها التجمعات التعليمية الدينية لمختلف المذاهب.

وأخيراً..

من الأمور التي أعتقد بأنها تشكل نواقص في العمل، يمكن المرور عليها ولو بشكل سريع. وفق الآتي:

أ: طغيان عنصر الشر في المسلسل، كما هو حال الشرير “أبو عيسى” وجشع أبو أحمد، الذي لعب دوره الممثل “سعيد قريش”. وكما يبدو أن القصد في هذا التوجه، مرده رفع وتيرة المواقف الدرامية. ولكن من واقع الحياة، أن هذا الصلف والقسوة المطلقة المطلقتين، غير مناسب حدوثها في المجتمع الإحسائي الصغير، وفي المجتمعات الأخرى المماثلة له. لاسيما، أن هذه المجتمعات عرفت بضوابطها المختلفة وببساطتها وتقاربها وإلفه مكوناتها. لأن الموقف الاجتماعي ـ بهذه المجتمعات ـ لا يستوعب كل هذا الشطط من الأعمال البشعة، التي يرتكبها عدد من الأشرار بشكل يتجاوز الحدود. وبالتالي، يكتفي الجميع (على اختلاف مواقعهم في المجتمع) بمعارضات صامته، وتمر الاحداث بدون معارضة عمليه من قبل قوى اجتماعية أخرى. غالباً، تكون متوفرة في المجتمع وقادره على عمل شيء تجاه هذا الظلم.

ب: بعض الأمور في المسلسل، تحتاج إلى تدقيق. فقد ذكر أحد أبطال المسلسل “جيفارا” الشخصية التاريخية المعروفة. كنوع من الاستشهاد به. ولكن، إذا افترضنا أن أحداث المسلسل، وقعت عند أوائل الخمسينات من القرن الماضي، بينما، اغتيل هذا الرجل في 9 أكتوبر 1967م. فهناك فرق بين تاريخ نهاية أحداث المسلسل، وبين وفاته، وهذا ما يحتاج إعادة النظر به.

د: كانت المنطقة الشرقية (بما فيها منطقة الأحساء) خلال فترة احداث المسلسل، تعج بالحراك السياسي، وبالذات إضرابات عمال شركة “أرامكو” الأجنبية للمطالبة بحقوقهم. وهذا ليس سراً وهو تاريخ مشهور ومعروف للقاصي والداني، حتى أن الملك “سعود” يرحمه الله، كان له مواقف مشهودة من التدخل لحماية مصالح العمال.

قد أتفهم الميل الواضح لعدم اقحام المسلسل بدهاليز السياسة، وهذا قد يكون مطلوب أحياناً. ولكن جرف هذا التاريخ نهائياً وتجاهله، صعب وغير ممكن؟!. ولا يكفي الإيماءة اليتيمة للسياسة عندما تم توقيف “أبو فرحان” بمركز الشرطة، جراء وشاية قام بها “أبو عيسى” بسبب محاضرة، تمت بالمقهى.     

في الأخير..

أشد على أيدي كل من ساهم في أنتاج هذا العمل الفني، رغم ما قد يقال فيه من رؤى نقدية، وهذا يجب ألا يفسد للود قضية. على أمل أن يكون المسلسل حافزاً ومقدمةً للمقتدرين (مالياً وفنياً) لنرى المزيد من الأعمال الفنية الجادة في ساحتنا الفنية.     

24أبريل 2024م

الهوامش:

1): هذه الرواية كتبها الأديب المرحوم “علي أبو السعود” عام 1373هـ في مستشفى “ظهر الباشق” في جبل لبنان. غير أن الرواية طبعت في عام 1435هـ 2014م. بمراجعة وتدقيق الشاعر “عدنان العوامي”

2): كان يوجد مقهى شعبي مشهور في مدخل الهفوف، يخص شخص يدعى “الحربي” قادم من حي المعابدة في مكة. فهل هو المقهى المعني في هذا المسلسل أم لا؟   

3): “أبو رغال” أشهر جاسوس في تاريخ العرب، وهو الذي دل “أبرهة” ملك الحبشة على الطريق المؤدية إلى مكة، حينما حاول غزوها قبل الاسلام. فصار يضرب به المثل بالتجسس.   

اقرأ أيضاً

محمد العباس لـ “صُبرة”: أحب إبراهيم الحساوي.. ولكن “جاسم” شخصية مصطنعة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×