الملامح النصية للقصيدة في القطيف وطبيعة المؤثر الخارجي

فريد النمر

توطئة

كمدخل ومن نظرة سريعة للشعر العربي في عمومه كفن دلالي يشير بعلاماته التأويلية الخاصة عبر سياقات وأساليب مختلفة لفاعل حقيقي وفاعل على تقديري بالإمكان من التعاطي أي بين شاعر ومتلقي يعي اشتغالات القصيدة الناجحة شعرياً

 أنحو هنا أن معرّفات الشعر ارتبطت مفهوميا بمحددين أساسيين هما “اللغة والإيقاع” كمحدد أول بنائي ، وثانيا “الفنية والإبداع” كمحدد ثاني إجرائي أكثر أهمية يلعبه الشعر في حضوره المميز.

وأكاد هنا أن أنشئ بين هذين المحددين علاقة تقترب وتبتعد من هوية القصيدة القديمة في رسمها وأعيد النظر في مكونات القصيدة الحديثة عبر محددات أقرب لأن تكون في نظرة مخبرية شعرية تتصل بتاريخ التراث الشعري كامتداد طبيعي عبر مكونه الدلالي لكائن حي ينمو ويتغير ويعيد تشكيل نفسه عبر مسطرة الزمن من قرن لآخر ومن حقبة لأخرى، وما يرفده الشعر من حركة دائمة تؤثر في لغته المتجدد ورؤيته الفنية والإبداعية.

لذا كان علينا في دراسة الملامح النصية للقصيدة في القطيف أن نعي طبيعة المؤثرات الخارجية كبيئة النص المكانية والزمانية وبيئة النص المعرفية والثقافية بين حقب زمنية متقدمة ومتأخرة، ومناخاتها السياسية والدينية والاجتماعية، وفضاءاتها المكانية مثل الريف والمدينة أو الطبيعة التي نشأت فيها مخصبة كانت أو صحراوية وهكذا.. ولعل قصة الشاعر علي بن الجهم حاضرة في الأذهان والتحول الذي غير مسار القصيدة من وعورة القصيدة إلى جزالتها العالية في الوصف والأسلوب والسياق معروفة وشاهد على التحولات الشعرية في كل عصر وما تقدمه القصيدة من تعالق ببيئة النص.

وكما أريد أن ألفت المتلقي أيضا لخصوصية القدرة الذاتية والشخصية لمنتج النص من حيث البداهة الشعرية والمكنة التعبيرية من الخلق الشعري مقابل للتقليدي والمكرور والأفكار المدورة مع إيماننا جميعا بأن النصوص هي تفريعات أخرى لنصوص سابقة في شجرة الشعر الهائلة.

فالنص الشعري كما يقول هايدغر “هو أبعد ما يكون عن إغفال المعطيات التاريخية، وأكثر صلة بحدة الحاضر عبر التقنية الدلالية الحديثة كنقطة تلاقي تسمى الشعر”؛ لذا ومن وجهة نظر خاصة لا يمكن للشعر إلا أن يكون  شعرا دون مضاف إليه في كينونته سوى تلك التعاريف للمذاهب والمدارس التي رمزت لها المذاهب الشعرية  كالكلاسيكية والتأثرية والمذهب النفسي الوجداني والتاريخي والتصويري وهي في الحقيقة مذاهب نقدية منهجية سادت أكثر في الوقت المعاصر كونها اتجاه موضوعي وإسلوبي دراسي للمبني والمعنى عبر معادلة الموضوعي الشعري والإتجاهي للقصيدة.

بيئة النص الشعري في القطيف

تنقسم البيئة المؤثرة في النص الشعري لقسمين أساسين قديم وحديث فالأول هو المتصل ثقافيا بالتراث العربي المتمثل في العصر الجاهلي وعصر الإسلام والأموي والعباسي اتصالا وثيقا كمرتكز إسلوبي يبني عليه الشاعر أفكار النص وسياقاته وتناصاته سواء بالتقاطع أو الموازات ,وهذا يتضح جليا بالرجوع لكتاب “شعراء القطيف عبر القرون للشيخ على المرهون” الذي يتحدث عن الشعراء فيها بملامح القصيدة القديمة الطللية والغزلية والنسبية من النسيب والرثاء والفخر والمديح كطقس شعري يتميز بلغته ومواضيعه وتضاريس البيئة المكانية المحدودة والإعتداد بالذات والآخر الذي يغلب على القصائد فيها المزج بين الغربة أو الافتراق والحنين للمحبوب أو الديار أو التغني بهما وهو ديدن جل القصائد القديمة والنزعة النفسية العقدية والتي تغلب عليها التوجيه والمحاججة أو الندبة والمناجاة والإستنهاض أو النصرة أو الدفاع عن الحق أو عن المكون العقدي في استمراء دائم،  وقد استمرت القصيدة على هذا النحو لقرون عدة حتى القرن التاسع عشر والعشرين متكأة على موروثها الشعري في هذا المضمار.

وطبعا هذا الحديث يخص القصيدة العربية الفصيحة وليس الشعبية المنبرية في كلا القسمين لكون القصيدة الشعبية في القطيف هي أيضا محل بحث خاص في تحولاتها وموضوعاتها ولهجتها لذلك لم أدخلها في الدراسة.

أما عن القسم الثاني فهو ما اتصل بالعقيدة والتي تثيرها القصيدة الولائية إن صح التعبير فيما تشكله من عاطفة ممتزجة بالولاء وما تفضي به من تحولات بين الوقوف على الذكريات العالية الحضور والحسرات المآلية التي آلت لخسارات فادحة وتراجيديا كونية من ضياع حق أمام باطل كمحكى لقصيدة عاطفية تشكلها البكائية في أغلبها ولكنها أيضا تتشكل في كل حالاتها الفرائحية والحزينة لذات العلاقة بين المؤمن والمعصوم أو ما يتعلق به من حدث تاريخي أو مروي يمنذجه الشعر في قالب تفجعي أو جميل عند المواليد مثلا اسمه القصيدة، وما قصائد العلماء ورواد المنابر إلا شاهدا حاضرا لهذا الاتجاه الشعري العقدي والتي تحضرني هنا قصائد العلماء مثالا الشيخ حسن التاروتي في تعاطيها الرائع بين مقدماتها وبين مبناها النصي الرصين والمتين لغة وشعرا.

التحولات الشعرية الموضوعية

حسب تتبعي القاصر أن ثمة تحول حدث في التعاطي الشعري ما بعد 1600 م والذي أفرزها عصر أبي البحر الخطي من حيث المعادلات الموضوعية وعتبة النص في الشروع للقصيدة، حيث تحولت القصيدة لديه في مخيالها لهوية تاريخية إجتماعية وجودة حياة وأحداث مواكبة للحالة الزمكانية المعاشة آنذاك متكأة على الخطاب العاطفي كمنظور للحياة الاجتماعية وإبراز الصراع بين الخير والشر وموقف الأخيار من الأشرار الذي يلفت له الجمهور ويكشف لهم عن جوانب إنسانية لا تبرز بالمستوى العادي من الوعي والذي يعول عليها في البحث التاريخي عوضا عن البحث اللغوي، ولعلنا نشير هنا للتحقيق الكبير الذي قدمه السيد عدنان العوامي في جزئين لديوان أبي البحر الخطي وقيمة هذا الشاعر السوّاح بشعره الفني وهويته وعقيدته ومكونه الرائع بلغة شاعرة قل نظيرها.

حيث نجد اتسام اللغة البليغة في القصيدة بجانب حدتها النابعة من الذات الشاعرة ومنبثقة عن حدث معيشي بالغ الأهمية في بيان المظلومية لتتفجر القصيدة لديه كطاقة كامنة نصية تحافظ على المعنى الإيجابي للقصيدة بتوتير عالي ومتسق بمعناه وموسيقاه وبنائه الشعري الجمالي دون الإغفال عن الإشارة بالمكان الذي أتي منه أو يوجد فيه أثناء كتابة النص أيضا لتكون القصيدة تبادلية في إشاراتها وموقفها ومستوعبة لدى الجميع ولعل هذا النهج ألهم الكثير من الشعراء للحذو حذوه فقد سار على هذا النفس طيف كبير من علماء العراق والبحرين والقطيف والأحساء وشعرائها الذين كتبوا القصيدة بمتناول الغرض الشعري والسياقي والأسلوبي في نفس الفترة الإجتماعية والسياسية التي عصفت بالمنطقة سواء في حكم العثمانيين أو الاستعمار البريطاني آنذاك وصولا لثورة العشرين بالعراق.

ملامح القصيدة المعاصرة في القطيف

من قراءات مختلفة وإلى وقت ليس بالبعيد كثيرا يقدر بستين إلى سبعين سنة أو أكثر قليلا، تشكل في القطيف كمدينة مترامية الأطراف عبر قراها وريفها ومركزها وحاضرتها طيف من الشعراء المحلقين الذين تركوا بصمة واضحة في المشهد القطيفي كان للمركز، القطيف، سبق القصيدة عبر تشكلات ومجاميع أدبية من المهتمين والكتاب.

من هنا كان لابد من إلماحة أطل بها على مسطرة الزمن والمكان والمناخ العام للبيئة الثقافية والشعرية لحقبة متتابعة من أجيال الشعر في المملكة وحاضرة القطيف خاصة لقربها من مراكز الثقافة وقتها والتي شكلتها المناخات الأدبية المتقاربة بدءًا بجيل الشيخ عبد الحميد الخطي رحمه الله وصولا لجيل الثمانينات الميلادية وهو وقت مداولة القصيدة وحركة النشر خارج الوطن في مرحلتها المتأخرة بالألفية الثانية كخط بياني يوضح تجانس الأفكار الشعرية في حقبة الشعر لتلك الفترة الساخنة لأحداث وتطورات حياتية مهمة وليس كنظرة للشعر المقارن وإنما لمدى هاجس الإشتغال بالشعر المقترن بمسارات الحياة، وانعكاساتها بنكهة التوجه والقدرة الكتابية والنبرة والسياق كمعجم لفظي ومعرفي للقصيدة حتي في غزليتها الشفيفة والرقيقة العالية الصنعة. 

ومن هنا وبرغم قرائتي لكثير من الأعمال الشعرية أجدني مسكونا بهاجس التفرس بملامح القصيدة والاكتشاف لبيئتها النصية والكشف الثقافي التي تحمله القصيدة في القطيف منقبا في خارطة الشعر فيها وعن ثيمة خاصة لمرحلة ربما تؤسس لمفهوم الشعري القطيفي إن جاز لي التعبير عبر دلالاته الواضحة ومنهجه التقليدي المتصاعد وذوقه المحافظ المعتدل على صعيد التأثر والتأثير الخارجي كحالة ابداعية تعنى بالبداهة الشعرية التي اتسم بها شعراء جيل الستينيات والسبعينيات الميلادية، وما تلاها من تجديد وما بعدها على الخصوص كمخاض أولي لحركة التنمية العمرانية والتقدم المتسارع في التعليم الأولي والمهني وتطوير الذات والصناعي وما عكسته هذه النقلة الحياتية على شعرائها من تلاقي بالآخر القريب والجوار القريب بالوطن العربي سواء كان باتجاه مصر والشام ولبنان أو العراق والكويت والبحرين الذين سبقونا بخطوات من الانفتاح على العالم وعلى أفق الإعلام المطبوع والمقروء والمسموع والمرئي كالإذاعة والتلفاز والصحافة العربية وأثرها على شعراء تلك الحقبة دون سواها وما فتحته من نوافذ معرفية وأدبية وما أحدثته التغيرات السياسية والاجتماعية المتسارعة من شرق الوطن العربي وغربه لتتقاطع القصيدة في القطيف مع كل ما يحدث بالجزائر وفلسطين والعراق من أحداث، حيث وجهت القصيدة لذروتها الشعرية بكل حضورها العربي ومما أسس لأشكال التواصل والتفاعل بين المهتمين بالثقافة والأدب عبر تبادل القصيدة والأدب والثقافة بمنظور عربي أو قومي أوغيرها من وجدان والاهتمام بشعرائها، وما زيارة الدكتورالخولي والدكتورة بنت الشاطي إلا محطة من محطات القصيدة في ذلك الوقت.

القواسم المشتركة

لا تعدو قيم المجتمعات المعيارية في تعريفها كونها سلوك فردي واجتماعي يعبر عنه الشخوص وفق تفاعلاتها مع المواقف المختلفة بكل أبعادها المادية والمعنوية فما يمثله صوت الفرد المبدع في خطابه في وقت ما كذات خاصة قد يتبناه صوت المجتمع لاحقا بعد تبلوره والاقتناع به ولو عند مجموعة من الناس، وهذه القيم إذا ما أسقطناها على الأدب بصورته العامة أو الشعر بصورته الخاصة ستتولد عندنا لغة تعبيرية ضافية يشحذها الشاعر الفطن نحو تكوين رؤيته الشعرية والمبرمجة والمجسة لهذه القيمة والملامسة لها في آن واحد لتحسس فاعل لهذه القيمة عند المتلقي للنص الشعري كأداة محاكاة محرضة على الامتثال بين ما هو دافع لتحريك ذائقته على اختلاف ميولها نحو الشعر وبين ما يساوقه ويوجهه الشعر كوظيفة اجتماعية يرصد فيها متغيرات المجتمع بخلوص ينقله من بنائه البيلوجي لسيكولوجية المعنى الشعوري الذي يتلقاه عند كل نص يشكله هذا الإنفعال سواء عبر المناسبة أو الموقف أو التنوع الموضوعي الذي تفرضه اللحظة والوقت أثناء القصيدة، وكل هذا من خلال التناغم النصي الصوتي والتركيب الجمالي الذي يخلق الوزن والإيقاع الذي يلوّن الذائقة بالشعور والإنفعال.

ومن هنا أجد أن القصيدة في القطيف تبني انشغالاتها الخاصة بعوالم متداخلة بين صوت الشاعر الخاص وصوت مجتمعه عبر موضوعاته خاصة وعامة متعددة حيث تركن القصيدة فيه لعدة انشغالات واشتغالات بين الشعرية في جُملها الشاعرة والسردية التي تحاكي العمود الشعري لتزدحم بالفكرة التقريرية الناصعة والموسيقى والألفاظ والوزن والتقفية لتشترك مع جيل يؤثث لخفة أفكار النصوص باستشعارات عاطفية ذاتية أولا واجتماعية ثانيا يتبادل فيها الشاعر الأحلام والهواجس والتطلعات مع مريديه، كصبغة محببة يقترب بها كثيرا من المريدين المثقفين والأدباء كتوجه شعري من جهة ومع عامة المتلقين من الجمهور كحالة رصينة كانت متبعة تلامس الحالة الشعورية للجميع وهذا ما دأب عليه جيل الشعر القطيفي بتلك الفترة لعبور ساحة الإجازة الشعرية التي تنهض بشعرائها المنصيّين أو المنبريين لجهة القبول والتفاعل ,كانفعال متبادل تكون القصيدة فيه حياة أخرى موازية مع واقعها المعاش في فنيتها وتناصاتها واستنتاجاتها وسيرورتها وأسئلتها الإنسانية وحتى فكاهيتها المحتملة موضوعا وسردا،

حيث يصب الشاعر ارتكازه على فاعليات ثلاث محركة هي:

– محرك اللغة – ومحرك الفكرة المضمونية القيمية – ومحرك التعالق للفكرة الشعرية مع المجتمع عبر التناغم الشعري في انسيابيته المغنية الموزونة كل ذلك دون محاولته التمرد على المفهوم المتبع إلا على الشكل التقليدي من العمودي أو التفعيلي للشعر الحر في بعض الأحيان لكن كل ذلك بخجل ظاهر يمكن أن يحسب له من قبال التجريب للخروج عن المألوف فقط لا الإشتغال. وعادة ما يعود للعقل الجمعي في بناء الشاعر للقصيدة لإيمانه أن الوقت ليس مهيئا للتجديد مما اضطر به للعودة لأدراج القصيدة في شكلها العمودي المناسباتي وبنائها التقليدي أسوة بمجايليه والقدوة وهذا لامسته في قصائد بعض الشعراء في تلك الفترة وقصائدهم المناسباتية والتي لو أفردوا من تجاربهم تلك لكانوا روادا حقيقين للتجديد الشعري الهائل اليوم.

الملامح والسمات

ولو تأملنا في النصوص لتلك الفترة سنجدها غنية بالإشتقاق والتركيب والنحت والتسمية والتورية والمطابقة والكناية والإستعارة كممارسة لغوية شعرية حاضرة بقوة تتكئ على تبني الرؤية الإجتماعية العامة كانطلوجيا شعرية متناغمة مع مفهوم القصيدة الواضحة وكعلامة فارقة وخاصة للتوظيف الشعري حيث تعلو نبرة هذا المكون الشعري القطيفي المعبر عن بيئته بشكل عام كسلطة خارجية تسيّر النص نحو تكوينه المفهومي واللغوي الواعي بمحيطة الأدبي كفضاء منتبه لكل فواصل النص المقتبسة والمتناصة لغة وإيقاعا وروي أو ما مازج بينهما عند الكتابة الشعرية كمنتج يحاول أن يمسك بمعادلة موضوعي للنص الأدبي التفاعلي المعبر عن تمثلاته الحقيقة بين ما هو ذاتي ووجداني ووطني ومناسباتي وعام في كل نص بقليل من المغامرة النصية.

من هنا نلمس بوضوح أن الشاعر في القطيف أكثر حساسية في اختيار بناء النص المرتبط بالمكان والمحلية واختيار ايقاعه للبحر ولحميمية الوزن لديه واتصاله بجمهور الشعر والشعراء منذ عنوانه وعتبته الأولى ,,  ليأتي النص في سياق التغني كمسافة تربطه بمتلقيه في محاولة دؤوبة في تحويل القول الشعري لوثيقة شعرية عبر النص المعبر عن ذاته الجماعية.

ولكن قد نجده أكثر تجاوزا عن السائد والمألوف عند تعاطيه مع الجمال والأنوثة واستثمار شاعريته لذروة المعنى في القصيدة الموجهة للخارج عند النشر وهذا ما وجدته مثلا عند عبد الواحد الخنيزي  والسيد عدنان العوامي

وعلى العكس بالنسبة للأشياء التفاعلية المتاخمة للضجيج التأويلي والأسئلة الكبرى حيث يتعامل الشاعر القطيفي معها بتجرد وتماهي خالص يميل للمشافهة فيها والتاريخ والحدث عبر تناول هادئ ينأى بالقصيدة عن الأحكام ليحل بدل ذلك صوت آخر أقرب لخطابية القيمة الإجتماعية أو الإنكفاء اتجاه الصمت عنها.

قصيدة جيل ما بعد الثمانينيات الميلادية

في الثمانينيات وما بعدها والمخاض الذي أنتج تغيرات في العالم المحيط والخليجي بقيام الثورة في إيران

أخذ الشعر في القطيف منحاه الديني الفاقع والمنتج في آن واحد إتجاه المتغيرات والتي انبرى لها طيف من الشباب عبر القصيدة الملحنة والمسموعة كموشحات وأناشيد تحمل أفكارها الأيدلوجية والعقدية وكذلك المناسباتية كاستثمار للتوعية الدينية والتبليغ ومحاربة الفساد العام وأسلمة القصيدة.

 إلا أن عبر جيل متقدم من الشباب المتعلم والواعي المجايل لجيل الرواد إن صح التعبير وانفتاح هذا الجيل على القنوات الفضائية المفتوحة في تسعينيته الفائتة تصاعدت وروح المسئولية والمغايرة تجاه القصيدة المضمونية الواعية والحاضرة بقيمتها عبر لغتها التعبيرية المتينة.. إلى فكرة القصيدة الغنائية السبك والأسلوب والسياق وذلك بعد تشكل مجموعات شعرية وأدبية مختلفة الإتجاهات مهتمة تنافش حداثة القصيدة بالعراق والشام ومصر ورسوخ كلاسيكيتها في حواضر أخرى وما طرأ عليها من أفكار عبر تغيرات كثيرة طرأت على العالم العربي والإسلامي وتدفق دواوين شعراء من مختلف الأقطار أسهم في بوصلة القصيدة حيث اعتنى هؤلاء الشعراء بالقصيدة عبر أشكالها الجديدة السيابية والنازكية في تفعيلاتها الحرة وقوافيها المتحررة وظهور حركة الشعر الجديد وصولا للنص النثري وشبهة الشعر والنثر فيها.

 كل هذا خلق في جيل الشعر متابعة عظيمة للنظريات النقدية الجديدة، وكمثال لا الحصر تلك التي قادها إليا حاوي حول البنيوية والتفكيكية للنص وسلسلته المعروفة في النقد الشعري المعاصر وما اطلع عليه بعدها أو ما تعرف عليه طلبة الجامعات من مدارس داخلية وخارجية كان أبرزها الخطيئة والتكفير والنسق الثقافي عند الدكتور الغدامي ومطارحات الأستاذ محمد العلي في تلك الفترة

أنتجت كل هذه المتغيرات حوارات مشروعة متقدمة ومعقدة احتدمت بعضها بالبعض لتصل لنا كمعارك معرفية وشعرية أثرت بكل نجاحاتها وخيباتها وتنظيراتها على مشروع الكتابة للقصيدة بين منتصر لشكل ولون وبين رافض ومتبرم ومنتقد لهذا التحديث الشعري كمخاض معرفي ألقى بظلاله على القصيدة المعرفية المبدعة عبر انزياحات القصيدة اللغوية وكثافة النص فيها، والتي خلقتها رغبة الصعود والإنطلاق والتجنيح نحو التجديد للتركيب المجازي الجديد والرؤيوي العميق الذي يبعث على الدهشة ويحافظ على كينونة الشعر كمفهوم منتج يتغنى بإنسانيته ومواقفه وذاته الشاعرة والأكثر ملامسة للداخل البشري، مضيئا للبشرية المناطق المعتمة والمظلمة التي لم يكن للشعر أن يصل لإضائتها لو لم تضاء المفاهيم المعرفية واللغوية العليا ونموها المتصاعد المؤثر على القصيدة الحديثة قبلها من خلال المبنى والمعنى والربط بين ما هو موروث وحاضر وإعادة اكتشاف واعية لصوت الشعر كعلاقة فلسفية بين ما يتبناه الشعراء الحديثين أو المعاصرين من الشعراء الموتى وما يضيفونه على واقعهم المعاش تحت ظل القصيدة وكما يقول تي إليوت عنهم : الشعراء الموتى هم بعيدون عنا لأننا نعرف أكثر مما عرفوه  بكثير وبالضبط هم ذلك الشيء الذي نعرفه.

من هنا كان الوعي بالقصيدة وكانت القصيدة بناء متكاملا في وحدتها كعمل فني لا يسهل فصله عن محدداته الشعرية المتقدمة الذكر أو تغييرها مهما اختلف الشكل النصي في معماريته الهندسية والتركيبة في أشكاله الثلاثة العمود والتفعيلة والنثر في بعث الإحساس النصي عبر مخياله وعاطفته وابتكاراته الأسلوبية والتصويرية الرائعة وهذا ما راهن عليه الجيل الجديد في حاضرة القطيف وما استدعونه كحضور شعري عالمي يصبو للوصول لذروة الفعل الشعري بين ما يقدمه الشعر من فن وبين ما يهدف له من متعة جمالية تستهدف الإحساس والذوق لجمال الروح البشرية المطلق والمنشود سواء كانت القصيدة وصفية أو تفاعلية أو رومانسية أو من منظور الرؤية التي ترسم الإنسان في حزنه أو في فرحه وكملمح لتغير الصور النفسية المتلاحقة أو كفاعل فني يفضي بالقصيدة باتساع الحياة والعالم كشاعر عربي لا يشق له غبار في إبداعاته الراقية، لأن القصيدة لم تعد في القطيف منطقاً للمحاكاة والخطاب الفردي والجمعي فقط بقدر ما تتعداه لمجازات فنية تتلاقى مع ما أبدعته الشعوب والحضارات الأخرى كأثر حي يشع بجماله ومخياله وإبداعه.

عالم الشبكة العنكبوتية والنت

بعد رقمنة الحياة في عام 1994 م ووجود فضاءات وحوائط خاصة جماعية وفردية ووسائط التواصل الإجتماعي المتسارعة أفرزت هذه المرحلة فوضى الكتابة في العالم كله وفي جميع علومه الطبيعية والأدبية وجميع الفنون، ولاسيما الشعر حيث كان مخاضا حقيقيا بين الثابت والمتحول والمنتحل والحقيقي عبر أسماء مزدوجة للكتاب وللشخصيات مما أحدث بالعالم من ارتباك معرفي وثقافي ومصدري أيضا للمعلومة وكذلك هو شأن القصيدة التي تتبعها المتلقي بذكاء الشعراء المخضرمين من حيث السياق والأسلوب والمعجم اللغوي بين القبول بها والرفض وبعد هدوء عاصفة الأسماء المستعارة والحضور الشخصي في الوسائل كان لها القصيدة أن تشكل معالمها وملامحها من حيث الجودة والحضور سواء بالإستفادة من رقمنة القصيدة أو من تشكل الجماعات على أرض الواقع، والذي أفرز المزيف من الحقيقي منها وبين ما هو تناصي وبين ما هو منحول خالص وكان الشعر في القطيف قدم فتوحات لجيل شاب قوي البنية النصية لافت الحضور على هذه الشبكة بما يقدمه من إبداع سواء من خلال المسابقات أو من خلال الأمسيات التي تقام هنا وهناك طوال العام والذي تصدر المشهد العربي والوطني بحضوره الدائم واللافت.

الخلاصة

وبسهولة تامة وأنا تحضرني أسماء وتغيب عني أسماء أخرى حاولت أن أتجنب الشواهد والأسماء والإشارة لها لأقفز في هذه الورقة لقراءة موضوعية تلامس حالنا الشعري الداخلي كثقافة نص وكأي مكون شعري عربي وما يطرأ على مشهده من متغيرات ومن مآسي ومن أتراح وأفراح وإنفتاح ورؤى وأيدلوجيات مختلفة وإيمانات شعرية متعددة تزلزل أو تقدم انتاجه، وأجد أن الشعر في القطيف مازال يخضع للمغايرة بين صدى الآخر الخارجي والتأثيرات الأولية في الإسلوبية والإصغاء الباطني لقصائد تجلجل في صمت سياقا ونسقا وإسلوبا وصدى للمعنى وبين طاقة روحية تريد التغلب على الحالة الأولى لوجود شعري متفرد ومختلف وممتد يسبق الكتابة ذاتها للإيقاع بالدهشة والمفاجأة التي تعيد تشكيل النص لمستقبل قادم تحركه الرغبة في الإنفراد النصي المختلف وبين هذا وذاك يفترض أن تكونا هاتان الرغبتان في حالة انسجام لا تؤديان للنكوص الشعري ولا الإنفلات من القصيدة بل للإستشراف المشرف كمشروع يؤثث للاتصالية كمعطى لغوي وكلامي يعتني بطبيعتنا الإنسانية الشفافة وبفرضيات اللغة والمعنى في أعلى فاعليتها التي يتحلى بها الشعر والفن والإبداع المنتج للأسئلة اللامتناهية، وما نوادي الشعر والأدب في محافظة القطيف إلا من بعض مصاديق هذا المشهد الفاعل والمواكب لتحولات الشعر والقصيدة نحو الأجمل والأفضل والأرقى.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×