القطيف.. حال القصيدةِ.. وحالتها قراءة وصفة للشعر منذ واقعية الأربعينيات إلى شعراء الإنترنت

حبيب محمود

في العام 1991م؛ قدّمتُ للشاعر المؤرخ محمد سعيد المسلم، بحثاً عنوانه “الشعر القطيفي في 40 عاماً ـ 1370 ـ 1410”..

من اليمين: كاتب السطور، الشاعر محمد سعيد الجشي، الشاعر محمد سعيد المسلم، أحمد حسن الناصر، محمد علي الناصر. القديح 1990

في ذلك البحث الوصفيّ؛ أفردتُ فصلاً أخيراً للتعريف بـ 50 اسماً من الذين حسبتهم شعراء. كان هذا العدد خلاصةً لأمثال ذلك بكثير. وقد سرتُ فيه على ما سار عليه مَن قبلي، في تصنيف شعراء القطيف إلى: كلاسيكيين، ومجددين. والأستاذ المسلم هو من أوائل من سار على هذه السيرة، في “ساحل الذهب الأسود”، ثم في “واحة على ضفاف الخليج”.

وبين “الساحل” و “الواحة”؛ كرّس عبدالعلي السيف التصنيف “الفني” ذاته في “القطيف وأضواء على شعرها المعاصر”، وبعدهما راعى عبدالله العبدالمحسن “التصنيف” عينه في “شعراء القطيف المعاصرون”..!

وللحقّ؛ فإن هذا التصنيف؛ وُلد طبيعياً منذ أربعينيات القرن الماضي، حين ظهر الرومانسيون الجدد في القطيف، مأخوذين بلغة “المهجر” و “أبولّو”، من شعر أبي ماضي وعرب القارّتين الغربيتين، ثم بلغة الشابي وعلي محمود طه على وجه الخصوص. أو بلغة الكلاسيكية الجديدة في الجزالة النجفية عند الجواهري والصافي النجفي.

حسناً؛ قدّمت الخمسين شاعراً، مقتنعاً بما غربلته ذائقة شابٍّ متحمّس لـ “القطيف ـ الشاعرة”. وتوقّعتُ ما توقّعتُ من سرور التقريظ المنتظر من شاعرٍ ممارس، ومؤرخٍ رائد، بحجم محمد سعيد المسلم، ومكانته..!

ثم جاء التقريظ بصراحةٍ فاحصة “كثير من الذين عدّهم شعراء هم ممن هبّ ودب”.. على هذا المعنى كتب الأستاذ المسلم مقدمة البحث، وعلّق جرساً مهمّاً في حال المضيّ قدماً في قراءة المشهد..!

الآن، وبعد ثلث قرنٍ من ذلك “التوبيخ” المحترَم؛ يتشعّب المشهد على وفرةٍ في كلّ شيءٍ، من المعلمين، إلى المهندسين، إلى الأطبّاء، إلى الإعلاميين، إلى الكتّاب، إلى الشعراء، إلى كلّ ما هو مِهْني وما هو فنّي، منسوخاً بشروط الوفرة التي فرضتها التحولات الهائلة، وأقرّها الهاجس الاجتماعي..!

والقصة لا صلة لها بمذهبٍ فنّي، فمنذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، والعرب يتجادلون في “شكل” القصيدة، لا جوهرها. هذا الجدل كان محطّ نقاش طويل سلسله الدكتور  محيي الدين اللاذقاني في ملفّ نقدي عريض نشرته صحيفة “الشرق الأوسط”، في أوائل الألفية بمناسبة مرور 50 سنة على القصيدة العربية الحديثة.

التفات أدباء العرب انصرف إلى “الصوتيات”، أكثر من انصرافه إلى “الشعرية” و “الشاعرية”.. انصرف إلى معاداة الحداثة، أو مهاجمتها..!

أما الحداثة فقد جابهها أدونيس، بلسانه، في محاضرة في القاهرة عام 2001، وحمل ـ فيها ـ على الحداثيين “المنبتّين” عن التراث.

وقصيدة النثر حسبها محمد العلي “شاعرية” لا “شاعرة”، قبل أكثر من عقد. وهو سبق أن عرّف نفسه “قدمٌ في التراث وأخرى في الحداثة”، ذات لقاء مع علي العميم في “الشرق الأوسط” في العام 1995م.

إذن؛ لا عِبرة في مذهب، ولا جوهرَ في شكل القصيدة، عموديّاً، تفعيلياً، نثرياً. وعليه؛ فإن مفهوم الكلاسيكية والتجديد، وُضع في القطيف تأدُّباً، حتى لا يغضب من يغضب، أو حتى يُميَّزُ شعراءُ الثواب، عن شعراء الحياة، أو حتى يُوصَف بعضهم بـ “النظم”، وآخرون بـ “الشعر”. ولـ “حتّى” مفاعيلُ كثيرةٌ في اللغة، وفي الحياة، وفي المجتمع، وفي كلٍّ منا شيءٌ من حتى.

و “الحداثة” و “النصّ الجديد”، ومعهما “التجديد” و “التقليد”، مفاهيم متداخلة ومتشابهة وغير متفق عليها، وذلك عائد إلى مفهوم الشعر الحديث أصلاً، مُذْ خرج شعراء العربية عن الشكل التناظري في القصيدة. فإن العمدة، في التفاهم حول هذه الإشكاليات، هي ربط النص بواقعه الفني وتطلعاته ودائرته التاريخية.

القصيدة الرومانسية مثلاً كانت، في أربعينيات القرن العشرين، نصًّا جديداً بحق في القطيف، لكنها تُعدُّ اليوم نصًّا تقليديًّا. ومثلها قصيدة التفعيلة في ستينيات القرن الهجري الماضي التي كانت نمطًا جديدًا كليًّا في القطيف، إلاَّ أنها اليوم قصيدة نمطية. ينطبق ذلك على قصيدة النثر في حال أردنا أن نعطيها صفة الجدة أو أن ننفيها. فالخلاف سيسمح لنا بأن نخوض في عرض الجدة والتقليدية كما نشاء.

مرحلة زمنية

لذلك؛ فإن من المنصف أن تتجه الإشارة التاريخية، في مسألة حال القصيدة في القطيف، إلى المرحلة الزمنية القصيرة بين منتصف أربعينيات القرن الهجري الماضي وأواخر ستينياته، وهي المرحلة التي كان فيها خالد الفرج واحدًا من “شعراء القطيف” إذا جاز الإنماء.. بل إن الإنماء يجوز فعلاً.

واقعية الفرج

كان خالد الفرج قادماً من خبرة إدارية وثقافة أدبية بدأها في الكويت وأنضجها في البحرين. وقد خوّله الملك عبدالعزيز تأسيس بلدية القطيف، فتحوّل ـ في مدة وجيزة ـ إلى واحدٍ من مسؤولي المنطقة ومن أدبائها. وقد ساعده موقعه الرسمي وميوله الأدبية على الاندماج في المجتمع. كان خالد الفرج شاعرًا إحيائي النزعة، متأثرًا باللغة التي أحياها شوقي وأدخل عليها تعديلاته الأسلوبية، وبتأثيرٍ من ميوله القومية تعاطى مع الشعر تعاطياً واقعياً في وقت لم يغادر فيه الشعر في القطيف إطاره التوارثي وانحصاره في البيوتات وانشغاله بالأيديولوجيات وانحصاره في تكرار المبنى والمعنى.

راح خالد الفرج في حالة تفاعلية مع شعراء القطيف مؤثرًا ومتأثرًا، وفي شق التأثير كانت نزعته الواقعية إحدى المفردات التي قدَّمها، قبل عودة الشيخ عبد الحميد الخطي وعبد الله الجشي من الدراسة في النجف الأشرف في العراق؛ لتتكون فيما بعد ما يشبه جماعتين أدبيتين، التف أعضاء إحداهما حول الشيخ الخطي، والأخرى حول الفرج في تفاعل وصل أحيانًا حدَّ التناطح “الأدبي” بين الجماعتين، وحدّ الخصومات.. والتراشق على صفحات الإعلام..!

أدخل الفرج الحس الواقعي في حين لم يكن موجودًا كموضوع شعريٍّ في القطيف، وعبر عنه في لغة الشعر الواقعي بحد البساطة الاعتيادية، ومثاله:

“بلفـور” إن اليـوم عـيدْ

فالبسْ له الثوبَ الجديـدْ

هذي فلسطـيـن الوديـ

ـعة في مصائبها تمـيـد

مـا ينقـضي زلـزالـها

حتى تزلزلَ من جديـد

آلامـها مـثـل الكـوا

كب ذا يغيب وذا يعود

مـن قبـل وعدكَ بالهنـا

عاش المسـوّد والمسـود

حتـى جعلتَ القـدس با

بـلَ في تكاثرها العديـد

وعجِلت قبل الحشر تجـ

علهم جميعاً فـي صعيـد

ولم يكن مثل هذا المضمون الواقعي مطروحًا ـ شعرياً ـ في أربعينيات القرن الهجري الماضي إلاَّ خارج القطيف.

ومثاله الواضح متوفر لدى عبد الله الجشي الذي كان مقيمًا في النجف عام النكبة، فقد سجل شعره موقفًا واقعيًّا عام 1948م – 1367هـ، وأطلق حماسته في نص طويل، منه:

أيها  التاريخُ حدّث علَّهـا
إن يومَ الرعبِ قـد أيقظنا
وعصاباتٌ رمَى الغرب بها
تفقـدُ الأفئدةَ الصَّماءَ قولا
فإذا بالقدسِ أشلاءٌ وقتلـى
مهدَ  عيسى ساخرًا ثم تخلَّى

الواقعية، آنئذٍ، لم تكن سياسية فحسب، بل تحركت اجتماعياً لدى محمد سعيد المسلم الذي فاجأ المجتمع بموقف حادّ من بعض رجال الدين أوائل الخمسينيات حين نشر في “العرفان” اللبنانية ميميته:

ضعتَ يا شعبُ بين كـلِّ معمَّـم

جـشعٍ فاغرِ اللهى فـاتح الـفمْ

بينَ  قومٍ  تبدُو  عليـهِم سمـاتُ الز

هدِ مـنْ شكلِهم وعـفـةُ مـريمْ

أسرفوا   في   الرِّياء  واستعبدُوا العا

لمَ، واستخدمـوا من الديـنِ سـلَّمْ

وواقع الأمر، هو أن الواقعية الاجتماعية بدأت قبل ذلك بكثير، في قصيدة كتبها الشيخ عبدالحميد الخطي عنوانها “لصٌّ كبير”:

بلى.. أسفي أني أراك منافقاً

بعمتّك الكبرى ضلالُ الأصاغرِ

شُغلتَ بجمع المال عن كل واجبٍ

فكن مثَلي واقنع بنُغبة طائرِ

فإن سرّك المال الذي قد سرقته

وبتّ قرير العين غير مُحاذرِ

سيعلم من أغراكَ فيما ارتكبته

وتلقى وإياهُ جزاء الجرائر

الخلاصة ترشدنا إلى طبيعة بيئة الأربعينيات والخمسينيات على وجه خاص، حيث كانت البيئة التفكيرية – ولا نقول الفكرية – مشوَّشة بقضايا كبيرة ومتأثرة بها، ولم يعد الخطاب الديني المؤثرَ الوحيدَ في أوساط نخبتها المثقفة، بل إن تلك النخبة راحت تبشر بثقافةٍ جديدةٍ مختلفةٍ عن التي تعلمتها من مشايخها.

رومانسية

وإذا كانت الواقعية شكلاً من أشكال التعاطي مع الثقافة الجديدة والتفاعل مع الواقع القومي والإنساني، فإن الرومانسية كانت الشكل المقابل الأكثر اتساعًا بين الشعراء الذين ظهروا منذ الأربعينيات حتى نهاية القرن الماضي. وإذا افترضنا أن الواقعية رؤية للموضوع، وتعبيراً عنه، ومعاضدة للرأي العام أو المشاعر القومية أو الدينية أو الفئوية، فإن الرومانسية تعبير عن الذاتية الخاصة بالشاعر وانكفاء النفس والاحتفال بها.

وقد وجد شعراء القطيف في الرومانسية مساحات شاسعة للتعبير عن ذواتهم، وأخذوا عن لغة المهجر وأبولو ما يمدهم بالصورة الشعرية الجديدة، وأحياناً الجملة الشعرية، وغالباً الإحساس بالحزن والغربة والألم في موضوعات الشكوى والشوق إلى المرأة المثال، علاوة على التأملات الفكرية المتصلة بالوجود والحياة والموت.

ومثالها لدى الشاعر محمد سعيد الخنيزي المشهود له بالروح المتشائمة السوداوية:

أرى من زوايا حياتي غدي

فأُبصرهُ روضة ذاوية

بين الرومانسية وشعر التفعيلة

مفهوم الجدة في الشعر انحصر لدى شعراء القطيف في الشكل الرومانسي شكلاً ومضموناً. ولذا ضربت التصنيفات طوقًا شكليًّاً حول “الشعراء المجددين”، في حين إن هذا التيار لم يعد تجديديًّا من الناحية التاريخية. فقد تكثف النتاج الرومانسي منذ الأربعينيات وهو العقد نفسه الذي شهد ولادة قصيدة التفعيلة ـ عربياً ـ على يد السياب ونازك الملائكة ونزار وبلند الحيدري، وقد استمر شعراء القطيف في الحرص على التجديد ضمن المفاهيم الرومانسية والعمودية، حتى بعد أن أسست قصيدة التفعيلة لنفسها مفاهيم مختلفة، وفرضت نفسها مشروعاً عريضاً في العالم العربي.

واللافت هو أن القصيدة الرومانسية المهجرية تحديدًا تأسست منذ عشرينيات القرن الميلادي الماضي، إلاَّ أنها وصلت إلى شعر القطيف في أواخر الأربعينات، وبقى شعراء القطيف مصرِّين عليها إلى ما بعد دخول الألفية الجديدة، وما بعدها. في حين إن قصيدة التفعيلة تأخرت أربعة عقود حتى تصل إليهم. وقد بدأت محاولاتها الأولى في الستينيات على يد الشاعر محمد سعيد المسلم، حين قال في قصيدته “صلاة”:

جفني يمُوجُ رؤىً

فأغفو سارحًا في ذكرياتِكْ

أنا لست أحفلُ بالصباحِ

ففي الدُّجى

مازالَ طيفكِ يرتمي

في مقلتيَّ

وهمسة ٌفي وشوشاتِكْ

والواضح في النص أنه يجسد بنية عمودية المبنى رغم الإطار الصوتي التفعيلي القائم على إطار مجزوء بحر الكامل، ولم تتخطَّ المهمة الفنية فيه تفكيك الشكل العمودي لتنثر تفاعيل البحر في توزيعة غير عمودية، أما اللغة فهي جميلة بحسها الشفاف المتوقع وغنائيتها.

إلا أن النص لم يعبّر عن تجريب ولم يقدم رؤية جمالية تتخطى التعبيرات الرومانسية التي يمكن تركيب جملها على شكل تناظري في قصيدة عمودية.

ومن المؤكد أن قصيدة التفعيلة العربية لم تخرج عن الشكل التناظري لتقع في أزمة التفكيك الشكلي الموسيقي وتتوقف عند هذه المهمة الإيقاعية؛ فقصيدة التفعيلة أسست انقلابًا في بنية اللغة، وفي علاقة المفردة بالمفردة وفي التعبير عن المضمون وفي الرؤية الجمالية والموقف الإبداعي برمته.

وهذا ما وجدنا بعضه في بعضٍ من تجربة عمر الشيخ الذي ظهر أواخر السبعينيات بحكم قربه من جماعة “المربد” وعَرّابها محمد العلي، ورفاقه: علي الدميني، وعبدالله الصيخان، ومحمد الثبيتي، ومحمد جبر الحربي، وغيرهم.

و “المربد” ملحق ثقافي أخذ اسمه من المهرجان الثقافي الشهير في العراق، وقد كانت تصدره صحيفة اليوم. وعمر الشيخ كان على تواصل مع هؤلاء الأدباء المرتبطين ـ من جهة أخرى ـ بفرع جمعية الثقافة والفنون في مدينة الدمام.

هذا القرب جعله متأثرًا بالواقعية الرمزية والواقعية السريالية التي مارستها الجماعة، وهي واقعية تعاطت مع الهاجس القومي على نحو وظف العديد من رموز الموروث في التعبير عن الواقع، خاصّة في مناخ ما بعد الهزيمة ـ النكسة:

زمانُ الهزيمهْ

وكلُّ الكلام الذي في السَّماء يدوِّي

رياحٌ عقيمهْ

يباسٌ أراضِي بلادي

كأنا نعيش بغيرِ فراتٍ

ومن غير نيلٍ

أتأتين يومًا على غفلةٍ؟

أنعرف يومًا طريقة ريِّ الموات؟

أنعرف سرَّ الوصول إلى المستحيل؟

وقد حرص عمر الشيخ على استحضار رموز الموروث في نصوصه أمثال طرفة بن العبد، عروة بن عثمان، أبي حيان التوحيدي، وغيرهم في إسقاطات واضحة:

لمن تشتكي؟

أنت لب القضية

أنت المسببُ

أنت الذي يرسلُ الدمع سحْبا

أتسقي الأراضي التي أمحلت

وتغري الرياح عسى أن تهبّا..؟!

قصيدة وحيدة

وفي منتصف الثمانينيات كانت القصيدة الجديدة تشق طريقها وحيدة أيضًا، وكان الشعراء المتهمون بالحداثة ما يزالون يدفعون فاتورة عقيدتهم الثقافية في مواجهة غير متكافئة مع التشدد الديني الذي يمكن اختزال ملامحه في مشروع “الحداثة في ميزان الإسلام”. وهو الكتاب الذي قدم فيه عوض القرني توصيفًا أحادياًّ متطرفاً لمفاهيم الحداثة، بربطه النص بالناص، متوصّلاً في استنتاجات متعسَّفة إلى إدانات عقدية وسلوكية وأخلاقية.. جماعية…!

اللافت في الأمر هو أن جزءًا واضحًا من أحداث صراع الحداثة والتشدُّد، كان يتفاعل على بعد كيلومترات قليلة من القطيف التي بقي مشروع القصيدة فيها دون أن يسجل أيَّ اختراق حقيقي يذكر.

وحين بدأت بعض الفعاليات تبرز بعض الشبان الواعدين، فإن محاولات الاختراق بقيت خجولة ومترددة كما في نصوص لمحمد رضي أبو عبد الله، الذي سجل بعض المغامرات في قصة شعرية مطولة ذات مضامين الميثولوجية كما في قصته “ديك الجن”، لكنه لم يستمر في التواصل مع هذا النحو الجديد، وكذلك أحمد نصر حمود الذي سعى إلى استخدام إيقاعات غير نمطية وتجاسر على الدخول في أنساق إيقاعية لم تكن مألوفة، إلا أنه لم يخلص لمشروعه بما يكفي، وربما كان الشاعر حسين آل رقية أقرب إلى التجريب، إلاَّ أن تجربته لم يكتب لها الاستمرار تحت ضغط ظروف خاصة.

والنجم اللامع من تلك المرحلة هو عادل الخزام، الذي خرج عن السرب وعن عباءة القطيف وعن مجتمعه، وراح يعبّر عن نفسه شعريًّا. تجربته كشفت عن مزاوجة تراهن على شكلين صوتيين، فإلى جانب التفعيلة هناك النثرية يقول في “مبتدأ العفونة”:

سأحطِّم المرآةَ فوقَ خطيئتي

وأستطيلكِ لقمةً

وأهضمُ آخرَ الأشلاءِ

من يدري

لعلكِ تخرجين الآن تختبئين في الأشلاءِ

سأصنع جسرها حزنًا/ رسالاتي

وأطلق خطوة أولى

تمر بمعبد الأحلام

وتتكرر الإشارة لدى شاعر آخر هو حسن السبع، الذي تأكد وجوده في الساحة في الثمانينيات والتسعينيات، وهو تعاطى مع القصيدة من مداخلها الصوتية الثلاثة العمودية التفعيلة والنثرية، مثبتًا أداءه في العمودي والنثر، وقد نجح نجاحًا جدِّيًا في قصيدة التفعيلة.

وفي مجموعته “زيتها وسهر القناديل” و”حديقة الزمن الآتي” تلتقي المداخل ذاتها، ويتعمق صوته التفعيلي:

قفْ على فجرِها واسألنْ

كيفَ ضاقَ المدَى

في يدِ الهيلمَان؟

واسألنْ

هلْ يحدُّ المدَى

وانفيَنْ

فالمدَى عنفوانْ

واسكبنْ

نخبَ أصدائهَا

فالصَّدى وردةٌ

في يبابِ المكانْ

المهاد الإيقاعي هنا يشهد للشاعر بمحاولة إعادة بناء الذاكرة الشعرية للوصول إلى صورة جديدة:

دائرةٌ ضيقةُ المدارْ

جدارُها يرفلُ بالنعاسِ والغبارْ

حدَّقت في الجدارْ

حدثتهُ

رسمتُ أشعاري عليهِ علَّه

يطربُ أو يهتزُّ

أو يصابُ بالدوارْ

وفي النص الأخير تتكاثف الصورة البسيطة للغة لتجسد رؤية داخلية غير مسؤولة عن المعنى، لكن الصوت الأقوى في شاعرية السبع هو صوت الذات الذي تتلبس الآخر أو تترك للآخر فرصة ليتلبسها ويسري بها في متاهة النص.

حداثة ناجزة

ومن خلال تجارب الدكتور أحمد المعتوق، وعادل الخزام، وحسن السبع، نلاحظ أنهم عبروا بالقصيدة من منطقة الرومانسية الحالمة إلى منطقة الرمزية والسريالية الرائية، إلاَّ أنهم يكادون لا يغادرون دائرة “الأنا” في مضامين تجربتهم الغنية لغويًّا.

“الأنا” ذاتها استمرت مع الشعراء الذين جاؤوا في النصف الأول من التسعينيات: محمد الماجد، علي الفرج، وخالد محيميد، أو الذين جاؤوا بعدهم وصولاً إلى سقف الألفية وما بعدها، إلا أن الـ “أنا” اتخذت لنفسها صنوفًا من التعبيرات والتقنيات، واتسعت دائرتها أحيانًا لتكون الآخر أو الآخرين اقترابًا إلى مساحة الواقعية أو الاستسلام لخطابيتها.

علي الفرج القادم من القصيدة العمودية مثلاً وجد في التفعيلة سجلاً لمرايا متعددة الأوجه في التعبير عن “الأنا” ويمكننا الالتفات إلى تحول “أنا” إلى “أنت” في خطابه الشعري:

إلى أينَ تمشِي؟

تهرولُ هذي السلالمُ

كلُّ الجهاتِ مفرَّغةٌ منْ مسافاتِها

لم يعدْ

غيرُ ثقبٌ لأعلى

إلى أينَ يمشِي الذي ليسَ في رجلهِ سلَّمٌ

أوجِّههُ

بين حائطِ كفِّي

وحائطِ كفِّكَ

حائطْ

والصورة من الخارج غيرها من الداخل هنا، والتشكيل الجمالي يفيد من مفارقات الرؤية الكئيبة وكأنَّ الشاعرَ يعيدُ الهاجسَ الرومانسِي في القصيدةِ الستينيةِ ليخرجهُ في نسقٍ آخر.

وكما لدى جميل الحبيب في (ابنة الفقيرِ الكذاب):

أبي.. أبي.. أفق أفق

ألم تعدني البارحة..

بخاتمٍ وعقدْ؟

وشـَرطة حمراءَ لم تخطرْ ببالِ الوردْ؟

والمعطفِ القطني،

قلتَ.. كي يقيني البرد

غدا غدا؟ أكدتَ لي

وليسَ بعدَ الغدْ

كم مرَّةً وعدتَني؟

كم مرَّةً أخلفتَ هذا الوعدْ

أبي أبي..

أكلَّما ذكرتَ ما وعدتّني

رجعتَ دونَ ردّْ؟

ما يزال للحديثِ بقية حول قصيدة النثر، وبما أني عرجت عليها في حديثي عن الشاعر عادل الخزام، سأتوقف إلى هنا آملاً طرح المتبقي من ورقتي من خلال المداخلات.

شعراء الإنترنت

أطلّت الألفية، وتدفّق الشعر في القطيف تدفقاً مُعولماً. تُنشر قصيدةٌ في منتدى ما، فيشهد العالمُ على وجودها.

سقطت هيمنة الصحافة.. سقط مقصّ الرقيب.. سقط الحرس القديم من “الأستاذيات”.. اكتبوا وانشروا.. علّقوا.. تفاعلوا.. تواصلوا.. إنها الإنترنت، تمكّنوا من حلحلة معضلة المجتمع في الفصل بين الجنسين.. سجّلوا أسماءكم.. أشباحكم.. رموزكم، تنقّبوا، أو أسفروا..!

إنها الإنترنت أيها الناس.. إنها الإنترنت.. و “أنتم الناس أيها الشعراءُ”.. قالها لكم شوقي قبل أن يُولد آباؤكم..!

صنعت الإنترنت جيلاً جديداً من الشعراء، بل من كل شيء. صنعت لوحات المفاتيح شعراً إلكترونياً، لا حاجة إلى ورق ولا إلى حبر. الإنترنت على سعتها الكونية، ومحضوناتها في مواقع الأدب، ومنصّات النشر.. ثم السيل العارم من تطبيقات التواصل الاجتماعي، قبيل الربيع العربي، وتداعياته، وأوهامه، وفواجعه، وتصدّعات مجتمعاته..!

حسناً، الآن، وبعد ربع قرنٍ على الربيع الإلكتروني، لو عدتُ إلى ذائقة ذلك الشاب في العام 1991؛ لحصرتُ ـ مقتصداً ـ 500 اسم أحسبهم على الشعراء، ولما وبّخني الأستاذ المسلم، ولا غيره، على جمع من هبّ ومن دبّ، في الكتابة والنشر..!

من هم الشعراء…؟

من هم الناس الذين دلّلهم شوقي..؟

واقعاً؛ القطيف الأولى شاعرةٌ بطبيعة طينتها، من قبل أن يفقد عمرو بن قميئة عِذار لجامه في عمر الثمانين، وقبل أن يتساوق المثقّب العبدي مع زهير بن أبي سُلمى:

حسَنٌ قولُ نعم من بعد لا

وقبيحٌ قولُ لا بعد نعمْ..!

القطيف الأولى شاعرةٌ، وغيورة، قبل أن يحذّر زيادُ الأعجم الفرزدقَ:

وإنّا وما تُهدي لنا، إن هجوتنا

لكالبحرِ، مُهما يُلقَ في البحر؛ يغرقِ..!

أحتاج إلى ذاكرة عبدالخالق الجنبي، وصوته الجهور، لأسرد من المرزباني، وريحانة الألبا، ولأستشهد برأي عمر فروخ، وأستقصي مطبوعات الشيخ علي المرهون، وأغربل مجاملات عبدالعلي السيف..!

أحتاج إلى أن أفهم ما يجري، لعلّني ـ حين أفهم ـ أفرز الشعر عن اللاشعور..!

إنني أحتاج إلى ما هو أدق وأكثر حصافة.. أحتاج إلى أن أميّز الاجتماعي عن الثقافي، بوصف ذلك ظاهرةً من ظواهرِ مُخرجات التعليم، وتنامي مناخ الإبداع، وتعدد المشارب، وتفتُّح الإغراءات، ورُخص الطباعة والنشر، وجهوزية “المصحّحين”..!

أحتاج إلى تأمُّل شعراء وهم ينمّقون اللغة من إجل إرضاء هيئة تحكيم في مسابقة…!

وتسقُّط شعراء مواعيد المناسبات..!

وتكتُّل الصداقات..!

وتشكُّل الجماعات..!

أحتاج إلى ما هو أبعد.. إلى فهم تنامي ما يمكن وصفه بـ “الشعر الإرضائيّ”.. أعني به ذلك الذي يُكتب من أجل أن يرضى الجمهور، ويُصفّق الأصدقاء، ويتغازَل المتقاطعون..!

كُتّاب الشعر عندنا لم يعودوا نُخبة لإنتاج الإبداع، وليس بينهم من يُحرّض ويستفزّ ويواجهُ، ليس بينهم من هو مستعدٌّ للتصادم، من أجلِ قضية، أو رؤية، أو تشكيل..!

أحتاج إلى أن أسكتَ عن الكلام المباح..

والسلام عليكم.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×