3] غليان الربع الخالي المرأة الأمل أم المرأة المعطلة..؟
محمد الهلال
اتخذ اسم أمل في الرواية أكثر من معنى، كان الأمل الذي ظل يحلم به ويدافع عنه طيلة حياته، أن تكون الحياة شراكة بمعناها الحقيقي بين الرجل والمرأة، وأن يتخلص الرجل من حمولته التي ورثها من مجتمعه، تلك النظرة الذكورية للحياة وأن كل شيء فيها مسخر لهُ وبأن المرأة لم تخلق إلا من أجله، سجنٌ ظلت المرأة بالعالم العربي والإسلامي والعالم أجمع تعيش خلف قضبانه قد يتسع ذلك السجن وقد يضيق حسب كل مجتمع من المجتمعات إن كان عربيا أو غربيا.
ولكن يبقى السجن الذي لن تخرج منه المرأة ولو توهمت ذلك فالسجان لهُ من الذكاء والعبقرية أن يوهم السجين بالحرية، لكي لا يفكر في أن يخرج منه ولو قُدر لرجلٕ أن يساعدها على الخروج ويبدي تعاطفا معها سوف يكون الجاني على نفسه، فالمجتمعات ما انفكّت دائما وأبدا أسيرة العادات والتقاليد الموروثة، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية، والسلطات المستفيدة تحارب من أجله، إنه السجن الأبدي المحكوم به على إنسان هذه الأرض وليس المرأة فقط. ربما تخلصنا من الاستعمار في العالم العربي ولكننا بقينا تحت استعمار أكبر وهو استعمار العقل، هناك مؤسسات تبنى عليها المجتمعات وهي مؤسسات دينية أو اقتصادية تدافع وبشدة ليبقى الوضع على ما هو عليه، لأن مصالحها ومصالح العالم تقوم على هذه الثنائيات، هي من تحكم العالم.
نعود مرة أخرى للرواية، إذ يقول الكاتب في الصفحة ١٧: “فزوجتي لم تكن غريبة عنى، وكأنها أخت لي”. وبعد ذلك يبدأ في طرح الأسئلة على نفسه، ربما يجد إجابة على الحيرة التي تنتابه، إذ يقول في الصفحة ١٦: “ولكن ماذا عن الخادمة صالحة؟ هل هي ليست غريبة وشيء مسلم به؟ وأن قدر الخادمات هو أن يستسلمن لعبث مستخدميهم ونزواتهم أي التحرش الجنسي، وماذا عن بائعة الهوى التي نمت معها في القاهرة، هل هي أيضا شيء مسلم به، أو مجرد سلعة استهلكت بعد أن دفعت ثمنها وانتهى الأمر ولم تبق منها أي ذكرى وبالطبع أي رائحة سوى رائحة الخطيئة!! ماذا عن الأمريكية؟ هل هي بدع من دون النساء”.
كل تلك الأسئلة لم ينتبه إليها، لم يحاول الإجابة عليها إلا بعد أن خاض التجربة كاملة، كما يقول في الصفحة ١٦: “لم تنتابني هذه الأفكار وقتها حينما أطبقت عليّ رائحتها، وإنما طرأت عليّ فيما بعد”.
عندما حاول التعرف على المرأة التي أعجب بها ولم يستطع الوصول إليها، يقول في الصفحة ١٦: “وقتها شلت حراكي بل توقف القلب بضع ثوانٍ عن النبض، لم أفكر إلا في شيء واحد هو أن أمتلك هذه المرأة”.
لماذا؟
لأنه وقع في حب حقيقي، هو لم يفكر بالشكل بل بالمضمون، إذ يقول في الصفحة ١٦: “وقتها لم أدقق في ملامحها، ولهذا لا أستطيع أن أصفها لك”.
ولكن ماهي الأساليب التي اتخذها للوصول إليها، من يأتي من الربع الخالي لا يملك طريقة للتفاهم غير المال، فهو لم يخض تجارب حقيقية مع الجنس الآخر، ولم تكن له حوارات معها، غير حوارات السمع والطاعة، إذ يقول في الصفحة ١٧: “وفقا لنظريتك كان المفروض أن تستجيب للمحاولات التي بذلتها للتقرب منها، ولكن كل هذه المحاولات فشلت. قلت: بعض الناس في كل زمان ومكان متعففون لا يمكن إغراؤهم أو شراؤهم بالمناصب أو المال وحتى الجنس الآخر لا يخلو من هؤلاء، ويبدو أن صاحبتك واحدة منهن”.
لكن عندما تحقق مراده وتم زواجه بها لماذا لم يستمر؟
يمنع الحاجز الثقافي (الوعي)، هناك فوارق كبيرة بين الاثنين، الأول أتى من بيئة لم تطأها الحضارة بعد والثاني أتى من تاريخ حضاري عمره سبعة آلاف سنة، فوارق في بنية الوعي، تحتاج إلى زمن وجهد وصبر كي تتقارب وجهات النظر وتكوّن بعض الرؤى المشتركة، ولو أمعنا النظر في المقطع القادم من الرواية لاتضحت الصورة، إذ يقول في الصفحة ١٦: “والعجيب أنني لا أقدر على وصفها حتى بعد كل هذه السنين ولا أملك سوى أن أردد ما قاله ابن الرومي: يسهل القول إنها أجمل الأشياء طراً ويصعب التحديد، وهو في الحقيقة لم يستطع أن يصفها عندما قابلته مرة أخرى بعد سنين طويلة وعرفت أنه تزوجها وعاش معها بعض الوقت”.
هذا الفارق الثقافي بينه وبين المجتمع الجديد عليه لم يستطع الخروج منه إلا بعد زمن، بسبب خوضه تجارب تبقى مع الآخر، احتكاكه مع بيئات مختلفة وأناس مختلفين، إذ يقول في الصفحة ١٩: “وذهب بي إلى مكان آخر عرفت فيما بعد أنه بار …..، وكان المكان مزدحما بالرجال والنساء، وهن نساء يختلفن في مظهرهن وحركاتهن وضحكاتهن الصارخة عن الطالبات اللاتي كن في الحفلة، على أن وجوههن رغم الطلاء الكثيف الذي يغطيها لا تكاد تبين من دخان السجائر الكثيف الذي تطغى رائحته على المكان وتختلط بروائح أخرى تتقزز منها النفس عرفتها وتعودتها فيما بعد، حين أصبحت أتردد إلى هذه الأماكن، إنها مزيج من العرق والعطور الرخيصة: رائحة لا تغادر الواحدة منهن ما ظلت على قيد الحياة”.
وكان يسمع تعليقات الطالبات عليه إذا حاول أن يقترب من إحداهن، إذ يقول في الصفحة ٢٢: “وذهبت إلى مكان آخر من الفصل، ولم أستطع البقاء في الفصل، ولا سيما أن البنات ظللن ينظرن إلي نظرات غريبة وكأنني أتيت من كوكب آخر وقالت لي التي جلست إلى جانبها: هل ضللت طريقك إلى جناح الحريم؟ ونطقت الكلمة الأخيرة هاريم”. وكأنهن بهذه الكلمة يرغبن منه أن يراجع تفكيره ويعطي نفسه وعقله الوقت ليفهم المرأة ومن ثم يحاول أن يقترب منهن، كصديق وليس قائدا عسكريا يعطي الأوامر، أن يراها كإنسان مستقل في تفكيره لا تابع له، إذن الأمل لم يكن إلا آمالاً وطموحات أن يتجاوز عالمنا العربي نظرته تجاه المرأة وإعطائها الثقة والشراكة الحقيقية، فكل الإخفاقات التي مررنا بها سياسيا واجتماعيا كان سببها الأول غياب المرأة، وعدم إعطائها دوراً حقيقياً بالمجتمع على كافة الأصعدة، ولن تتقدم المجتمعات العربية إلا بالاعتراف الكامل بالمرأة.
ولو تتبعنا العنصر النسائي في الرواية لوجدنا ذلك واضحا، وقد أخذ نماذج نسائية من بعض المجتمعات العربية والغربية، فالغرب يعاني من نفس المشكلة ولكن بدرجة أقل، لم يصل لدرجة الكمال كما يعتقد البعض أو كما يصور نفسه أمام العالم الثالث، فما يزال الجسد بالنسبة لهُ سلعة مهمة، يروج من خلاله لحياة معينة أو نمط معين من السلوك، أو يستغل من خلاله البعض، ليكون ورقة ضغط عليهم بسبب وقوعهم بالمصيدة، ولحضور اسم مونيكا دلالة على دور الجسد في الحياة الغربية، فهو أداة من أدوات الغرب وسلاح من أسلحته، يستخدمها وقت الضرورة.
فمونيكا هنا ليست مونيكا كلنتون، حتى لو تشابه الاسم، فللاسم أصبح رنين، لذلك اتخذه عابد اسما لإحدى بطلات روايته، للإشارة إلى أن الغرب الذي يدعي المساواة بين الرجل والمرأة لا يزال ينظر للمرأة كجسد، يستخدمه عند الحاجة إليه، فمن احتال على عامر الخماش وسرق ثروته وأدخله السجن لم يكن إلا جسد مونيكا وأجساد نساء أخريات كان يلتقي بهن في سفراته المتعددة خارج الربع الخالي، ويقضي معهن أوقاتاً ممتعة، تلك الثروة التي جمعها والده من المضاربة في الأراضي ذهبت بعد سنوات في متعة وقتية، فالابن أتى من لاس فيغاس إلى الربع الخالي ليعمل مع والده الذي تضخمت ثروته في وقت قصير بسبب الطفرة، لم يدرك قيمة تلك الثروة فالأموال كانت تأتي إليه في أمريكا ويصرفها دون حساب على ملذاته، فهو إنسان خاوٍ ليس لديه قيم أخلاقية ولم يكن يلتزم في دينه إلا شكليا، وهدفه الوحيد هو المال والمتعة، وهذا النوع من البشر يسهل السيطرة عليه، إذن للطفرة النفطية و الثورات العربية والانفتاح في عصر السادات سلبيات كثيرة، وأهمها غياب الوعي وطغيان الحياة المادية مما أثر في أخلاقيات البشر وقيهمم الاجتماعية التي كانت تسود قبل تدفق الثروة والثورات والانفتاح. فـ “الربع الخالي”، رواية وعي غاب ففسدت قيم وأخلاقيات وانهارت مجتمعات كان لها دور كبير في عصور مضت.
ولكن الأمل لم يكن معقوداً على قضية المرأة فقط، صحيح إنها تشكل أكثر من نصف المجتمعات العربية، وأن تمكينها وإعطاءها دورا سوف يساعد وبشكل كبير على تقدم الأمة، لكنها ستعاني كما يعاني الرجل من المحسوبية والفساد والعنصرية، هي قضايا إن لم تعالج، لن يتقدم أي مجتمع من المجتمعات العربية، فالكاتب في رواية “الربع الخالي” يراوح بين الأمل واليأس والرجاء والرهان على الوعي الذي يخوض صراعات رهيبة لتعطيل نموه، فأمة تمتلك نصف ثروة العالم كيف يسمح لها أن تفكر!
اقرأ الحلقة السابقة